الكتاب: المكي والمدني في القرآن الكريم
دراسة تأصيلية نقدية للسور والآيات، من أول القرآن الكريم إلى نهاية سورة الإسراء
المؤلف: عبد الرزاق حسين أحمد
الناشر: دار ابن عفان للنشر والتوزيع - مصر
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م
عدد الصفحات: 993
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(سورة يوسف مكية)
حكى غير واحد من أهل التفسير الإجماع على مكية سورة يوسف -عليه السلام- قال الماوردي -رحمه الله-: "وهي مكية كلها"النكت والعيون (۳/ ٥)..
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "هي مكية بالإجماع"زاد المسير (٤/ ۱۷٦)..
وقال البقاعي -رحمه الله-: "مكية كلها إجماعًا"مصاعد النظر (۲/ ۱۸٤)..
ويقول العلامة الآلوسي -رحمه الله-: "مكية كلها على المعتمد"روح المعاني (۱۲/ ۱۷۰) وانظر أيضا في نقل هذا الإجماع: الوسيط للواحدي (۲/ ٥۹۹) والإكليل على مدارك التنزيل لمحمد عبد الحق الهندي (٥/ ٥۳)..
وما قيل من استثناء بعض آيات هذه السورة فهو قول في غاية من الضعف.
قال السيوطي -رحمه الله- مشيرًا إلى هذا القول: "وهو واه جدًا لا يلتفت إليه"الإتقان (۱/ ٤٥)..
الروايات الدالة على مكية السورة
۱ - في حديث رفاعة بن رافع ¬صحابي أنصاري: شهد بدرًا، والمشاهد كلها، توفي -رضي الله عنه- سنة (٤۱ هـ) وقيل (٤۲ هـ).
ترجمته: الإصابة (۱/ ٥۱۷)، الاستيعاب (۲/ ٤۹۷ - ٤۹۹).¥ الذي أخرجه الحاكم في "المستدرك" فيه ما يدل على نزول سورة يوسف بمكة ونصه: قال الحاكم: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني، ثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل ثنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المدني الشجري، حدثني أبي عن عبد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه رفاعة بن رافع وكان قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة، فلما هبطا من الثنية رأيا رجلا تحت شجرة، قال: وهذا قبل خروج الستة الأنصاريين، قال فلما رأيناه كلمناه، فقلنا نأتي هذا الرجل نستودعه حتى نطوف بالبيت، فسلمنا عليه تسليم الجاهلية، فرد علينا بسلام أهل الإسلام وقد سمعنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنكرنا فقلنا من أنت؟ قال: أنزلوا فنزلنا فقلنا: أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول: فقال: أنا، فقلت: فاعرض عليّ، فعرض علينا الإسلام، وقال: من خلق السماوات والأرض والجبال؟ قلنا: خلقهن الله، قال: فمن خلقكم؟ قلنا الله، قال: فمن عمل هذه الأصنام التي تعبدونها؟ قلنا نحن، قال: فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق؟ فأنتم أحق أن تعبدكم وأنتم عملتوها، والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه، وأنا أدعو إلى عبادة الله وشهادة أن لا إله الله، وأني رسول الله، وصلة الرحم، وترك العدوان، وبغض الناس في المستدرك "وترك العدوان بغصب الناس" وهو تصحيف، والتصويب من الدر انظر: (٤/ ٤۹٤).، قلنا لا والله لو كان الذي تدعو إليه باطلا لكان من معالي ومحاسن الأخلاق، فأمسك راحلتنا حتى نأتي البيت فجلس عنده معاذ بن عفراء، قال فجئت البيت فطفت وأخرجت سبعة أقداح، فجعلت له منها قدحا، فاستقبلت البيت فقلت: اللهم إن كان ما يدعو إليه محمد حقا فأخرج قدحه سبع مرات، فضربت بها، فخرج سبع مرات، فصحت أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فاجتمع الناس عليّ وقالوا مجنون رجل صبا، قلت: بل رجل مؤمن، ثم جئت إلى أعلى مكة، فلما رآني معاذ قال: لقد جاء رفاعة بوجه ما ذهب بمثله، فجئت وآمنت، وعلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة يوسف، واقرأ باسم ربك الذي خلق، ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، فلما كنا بالعقيق ¬من أشهر أودية المدينة المنورة، يأتيها من الشمال، وله ذكر كثير في أشعار العرب، وفي كتب البلدانيات، وبعضه داخل في حرم المدينة ...
وهو ما حاذى جبل عمر إلى جهة المدينة.
انظر: معجم المعالم الجغرافية (ص: ۲۱۳) أخبار الوادي المبارك "العقيق" لمحمد حسن شُرَّاب (ص: ۳۱ - ۳۲).¥ قال معاذ إني لم أطرق أهلي ليلًا قط فبت بنا حتى نصبح، فقلت: أبيت ومعي ما معي من الخبر، ما كنت لأفعل، وكان رفاعة إذا خرج سفرًا ثم قدم عرض قومه" ¬المستدرك (٤/ ۱٤۹ - ۱٥۰).
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" المستدرك (٤/ ۱٥۰).
قلت: وفي إسناده إبراهيم بن يحيى المدني الشجري.
قال الأزدي: "منكر الحديث" تهذيب التهذيب (۱/ ۱۱٤).
وقال الذهبي: "صاحب مناكير" الميزان (۱/ ٥۷).
وقال الحافظ ابن حجر: "لين الحديث" التقريب (۱/ ٤٥).¥.
وجه الدلالة: إن قدوم رافع من المدينة إلى مكة وتعلمه من النبي -صلى الله عليه وسلم- سورة يوسف لدليل على مكيتها.
قال العلامة الآلوسى -رحمه الله- بعد أن ذكر بعض الروايات الدالة على مكية السورة: "وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع من حديث طويل يحكي فيه قدوم رافع مكة وإسلامه وتعليم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياه هذه السورة، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} " روح المعاني (۱۲/ ۱۷۰)..
۱ - أخرج ابن الضريس من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكر فيما نزل بمكة وما أنزل بالمدينة، وسورة يوسف من القسم المكي انظر: فضائل القرآن لابن الضريس (ص: ۳٤)..
۲ - وأخرج النحاس من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: "نزلت سورة يوسف بمكة فهي مكية"الناسخ والمنسوخ للنحاس (۲/ ٤۷٤) وزيادة في التخريج السابق لهذا الأثر فقد عزا السيوطي إلى أبي الشيخ وابن مردويه. انظر: الدر (٤/ ٤۹٤)..
۳ - وأخرج ابن مردويه بسنده عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- قال: "أنزلت سورة يوسف بمكة"الدر (٤/ ٤۹٤)..
٤ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق فضيل بن الحسين عن حسان بن إبراهيم عن أمية الأزدي عن جابر بن زيد، فذكر السور المكية والمدنية، وسورة يوسف من القسم المكي انظر: البيان للداني (ص: ۱۳٦)..
٥ - وأخرج البيهقي من طريق علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن فذكرا السور المكية والمدنية، وسورة يوسف من القسم المكي انظر: دلائل النبوة (۷/ ۱٤۲ - ۱٤۳)..
٦ - وأخرج أبو بكر بن الأنباري من طريق حجاج بن منهال عن همام عن قتادة فذكر السور المدنية، وقال في القسم المكي: "وسائر القرآن نزل بمكة" ومنها سورة يوسف انظر: تفسير القرطبي (۱/ ٦۱ - ٦۲)..
۷ - وأخرج أبو عبيد من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، فذكر السور المدنية، وقال في القسم المكي: "وسائر ذلك بمكة" ومنها سورة يوسف انظر: فضائل القرآن لأبي عبيد (ص: ۳٤۰) برقم (۷۹٦)..
۸ - وذكر الزهري -رحمه الله- السور المكية والمدنية، وسورة يوسف من القسم المكي انظر: تنزيل القرآن (ص: ۲۷)..
۹ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام البصري عن أئمته أن سورة يوسف مكية انظر: البيان للداني (ص: ۱٦۷)..
۱۰ - وذكر أبو القاسم النيسابوري ترتيب السور المكية والمدنية، وعدّ سورة يوسف ضمن القسم المكي انظر: التنزيل وترتيبه (۲۲۳ ق /أ)..
۱۱ - وأورد ابن شيطا في رواية له في المكي والمدني السور المدنية، وقال في القسم المكي: "وباقي سور القرآن الخمس والثمانون مكية" ومنها سورة يوسف انظر: فنون الأفنان (ص: ۳۳۷ - ۳۳۸)..
الآيات المدعى مدنيتها في سورة يوسف
قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (۱) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (۲) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} سورة يوسف الآيات (۱ - ۳).{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}سورة يوسف الآية (۷)..
نسب القول بمدنية هذه الآيات الأربع إلى ابن عباس وقتادة انظر: النكت والعيون (۳/ ٥)، تفسير القرطبي (۹/ ۱۱۸)، البحر المحيط (٦/ ۲۳٤). ولعلّ ما ذكره القرطبيّ في تفسيره من أن اليهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خبر يوسف هو الدافع إلى القول بمدنية هذه الآيات. انظر: تفسير القرطبيّ (۹/ ۱۱۸).
مناقشة دعوى مدنية هذه الآيات:
ومع أننا لم نجد دليلاً واضحاً تستند إليه هذه الدعوى فإننا نرى أنها تتناقض رويداً رويداً عند المناقشة، وإليك الأدلة في ذلك:-
أولًا: إن صح أن مستند هذه الدعوى هو ما ذكرنا من سؤال اليهود فإنه يبدو أن هذا ليس دليلاً كافياً للحكم على الآيات بأنهن مدنيات،- على الرغم من أن الاحتكاك بين المسلمين وبين اليهود كان في المرحلة المدنية- ¬قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في تقرير الخصائص الموضوعية للسور المدنية: "وأما السور المدنية ففيها الخطاب لمن يقر بأصل الرسالة، كأهل الكتاب الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وكالمؤمنين الذيق آمنوا بكتب الله ورسله، ولهذا قرر فيها الشرائع التي أكمل الله بها الدين، كالقبلة، والحج، والصيام، والاعتكاف، والجهاد، وأحكام المناكح ونحوها، وأحكام الأموال بالعدل كالبيع، والإحسان كالصدقة، والظلم كالربا، وغير ذلك مما هو من تمام الدين" مجموع الفتاوى (۱٥/ ۱٦۰).
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - مشيرًا إلى تلك الخصائص: "وأما السور المدنية فحجاجها في الغالب مع أهل الكتاب والمنافقين، وفيها تفصيل الأحكام الشخصية والمدنية لكثرة المسلمين المحتاجين إليها" تفسير المنار (٤/ ۳۲۱).¥ إذ إن استثناء آية أو آيات من سورتها المكية أو المدنية يحتاج إلى دليل صحيح سالم من النقد والتجريح، على أن هذا السؤال -إن صح- تم بواسطة كفار مكة وقد نص بعض الأئمة على ذلك انظر: معاني القرآن للنحاس (۳/ ۳۹٦) وعنه القرطبيّ في تفسيره (۹/ ۱۱۹)، وانظر: البحر المحيط (٦/ ۲۳٤).، ولعلّ من نافلة القول أن أكرر هنا ما ذكرته سابقًا من أن القرآن المكيّ تحدث عن اليهود في بعض آياته، وبينت السرّ في ذلك. ¬ما أكثر ما نجده في كتب التفسير من آيات تتحدث عن اليهود، ويحكم عليها بأنها مدنيات بمجرد حديثها عن تلك الأمة الحاقدة:
ولعل مقالة الغزالي المعاصر في غاية النفاسة في مثل هذا المقام حيث يقول: "وهناك آيات تعرضت لأهل الكتاب فجاء الرواة وعدّوها مدنية، كأن الكلام عن أهل الكتاب في مكة لا محلَّ له، والواقع أن هذه الروايات ينقصها التمحيص العلمي والتحقيق التاريخ، وشيوعها بهذه الصورة يشبه شيوع القول بالنسخ مع ضعف سنده من ناحيتي النقل والعقل، والغريب أن هذه الروايات الواهية هي إلى أثبتها دون غيرها نفر من الحفاظ أشرفوا على طبع هذا المصحف أخيرًا في دار الكتب المصرية" نظرات في القرآن لمحمد الغزالي (ص ۲٦۱)
ولتشعب أبعاد موضوع حديث القرآن عن بني إسرائيل في المرحلة المكية فإني سأقتصر هنا الحديث عن الدواعي والأسباب التي أدت إلى حديث القرآن المكي عن اليهود في ذلك العهد المبكر الذي لم يكن للمسلمين احتكاك بهم، ولم يكن لهم وجود في مكة.
وتتلخص تلك الأسباب فيما يلي:
أولًا: بناء الشخصية الإسلامية بناء متميزًا عما سواها من الشخصيات التي انحرفت عن منهج الله تعالى، ولا شكَّ أن هذا البناء يستدعي بيان المناهج الضالة حتَّى تتجنب السبل الأخرى المتفرقة التي تؤدي بصاحبها إلى المزالق والمهالك، وهكذا كان التعرض لعقائد اليهود وانحرافاتهم ومواقفهم مع أنبيائهم أمرًا تقتضيه دواعي التكوين للشخصية الإسلامية المتميزة، انظر: معركة الوجود بين القرآن والتلمود للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد (ص ۷۸)، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود للدكتور مصطفى مسلم (ص ۲۷)، اليهود في القرآن والسنة للدكتور محمد أديب الصالح (۱/ ۸۳).
مثال لهذا السبب: سورة الفاتحة من أوائل السور التي نزلت في المرحلة المكية، وفيها هداية المؤمن إلى الصراط المستقيم، وتجنبه صراط المغضوب عليهم -وهم اليهود- وصراط الضالين -وهم النصارى- كما جاء في حديث عدي بن حاتم، وفيه: "إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى"، المسند (٤/ ٥۱۲) برقم (۱۹۳۲۹)، طبعة المكتب الإسلامي المرقمة.
ثانيًا: الاستدلال بما عندهم من العلم، وأن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - موافق لما معهم، والغرض في ذلك هو إدخال الطمأنينة إلى قلوب المؤمنين بالدعوة الجديدة، فإن النفس الإنسانية تأنس بالفئات والأقوام، انظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (ص ۳۲)، بنو إسرائيل في القرآن والسنة للدكتور محمد سيد طنطاوي (۱/ ۱٥۰).
مثال لهذا السبب: قوله تعالى في سورة الأنعام المكية: {الذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} سورة الأنعام، الآية (۲۰).
ثالثًا: التحذير من اليهود الذين سيلتقون بهم وجهًا لوجه في مرحلة لاحقة - وكان ذلك في المراحل الأخيرة من القرآن المكي، انظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (ص ٦٥).
مثال لهذا السبب: ففي سورة العنكبوت التي هي من أواخر السور التي نزلت في المرحلة المكية يقول تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} سورة العنكبوت، الآية (٤٦).
رابعًا: لو بدأت المعركة مع اليهود من بداية المرحلة المدنية لقال بعض المتقولين إن محمدًا أخذ من اليهود ما احتاج إليه ثم حسدهم وناصبهم العداء بعد الاحتكاك بهم، إذ على الرغم من الهجوم القرآني عليهم وعلى زيفهم وانحرافهم منذ بداية البعثة فقد وجد من قال: إن محمدًا أخذ علومه من اليهود، فكيف لو تأخر بيان ذلك إلى المرحلة المدنية؟ ينظر: معركة الوجود بين القرآن والتلمود (ص ۷۸)، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (ص ۲۸ - ۲۹)، اليهود في القرآن والسنة (۱/ ۱٤۱).
مثال لهذا السبب: قال تعالى في سورة العنكبوت المكية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} سورة العنكبوت، الآية (٤۸).
خامسًا: وأخيرًا تعليم الأجيال المسلمة من خلال ظلال الآيات المكية أن معركتنا مع اليهود معركة مستمرة، وأنها معركة المنهج الرباني ضد المناهج البشرية المحرفة لكلمات الله تعالى، ينظر: معركة الوجود بين القرآن والتلمود (ص ۷۹)، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (ص ۲۹)، الشخصية اليهودية من خلال القرآن للدكتور صلاح الخالدي (ص ۳٥۹ - ۳٦۰).
مثال لهذا السبب: في مطلع سورة الإسراء المكية ما يُعَرِّفنا على طبيعة الصراع بيننا وبين اليهود حيث يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} سورة الإسراء، الآية (٤).
والخلاصة: أن الحديث عن اليهود قد أخذ قَسطًا من القرآن المكي حسب مراحل الدعوة في مكة، وبأساليب تتناسب مع أجواء السور التي ذُكروا فيها.¥.
ثانيًا: أن الروايات الثابتة تنص على أن السائلين هم الصحابة -رضوان الله عليهم- ففي مسند البزار من طريق خلّاد بن مسلم عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرّة عن مصعب بن سعد عن أبيه فيِ قول الله تبارك وتعالى {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (۱) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (۲) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية، قال: فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فتلا عليهم زماناً فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله عز وجل {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (۱) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (۲) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا، فأنزل الله عز وجل {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} كلّ ذلك يؤمرون بالقرآن أو يؤدون بالقرآن، قال خلّاد: وزادنى فيه قالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا فأنزل الله عز وجلّ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} ¬مسند البزار (۳/ ۳٥۲ برقم ۱۱٥۳) والحديث أخرجه أيضًا أبو يعلىّ في مسنده (۲/ ۸۷ - ۸۸) برقم (۷٤۰)، والطبري في تفسيره (۱٥/ ٥٥۳) برقم (۱۸۷۷٦)، وابن حبان في صحيحه (الإحسان)(۱٤/ ۹۲) برقم (٦۲۰۹) وقال محققه: إسناده قويّ، والحاكم في المستدرك (۲/ ۳٤٥) وصححه ووافقه الذهبي كلهم من طريق عمرو بن محمد عن خلاد الصفار به.
وذكره الهيثمي وقال: "رواه أبو يعلى والبزار نحوه وفيه الحسين بن عمرو العنقزي وثقة ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح" المجمع (۱۰/ ۲۲۲).
قلت: وجدت لحسين بن عمرو متابعة، فقد تابعه إسحاق بن إبراهيم بن راهويه عند ابن حبّان، انظر صحيح ابن حبّان (الإحسان)(۱٤/ ۹۲) برقم (٦۲۰۹)، والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (۳/ ۳٤۳) برقم (۳٦٥۲) وعزاه لأبي يعلى والبزار، وحسنه كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (۱۷/ ٤۰).¥.
فمن خلال هذه الرواية يبدو أن الآيات الثلاث الأُوَل جاءت كتمهيد لما جاء بعدها من قصة يوسف -عليه السلام-.
ثالثًا: أن دعوى مدنية هذه الآيات تؤدي إلى التفكيك في النظم القرآنيّ. وهذا أمر لا يليق بالكلام الحسن فضلاً عن كلام ربّ العالمين، فعلى سبيل المثال، الآية السابعة من هذه السورة من الآيات التي قيل إنها مدنية، ونصها: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} وجاء بعدها مباشِرة آيات مكية، وهى قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ... }سورة يوسف الآية (۸). إلى آخر السورة، فالضمير في قوله تعالى {إِذْ قَالُوا} راجع للإخوة المذكورين في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} وهل يتصور أن يفهم أن ضميراً في آية مكية متقدمة نزولاً يعود على مذكور في آية مدنية متأخرة؟ أليس هذا تقطيعاً في آيات الله تعالى إلى هذا الحد؟ ويا للعجب نرى مثل هذا الاستثناء يوضع بين يدي السورة في بعض المصاحف وكأن لجان هذه المصاحف ترى أنه خبر متفق على صحته!! انظر ما كتبته اللجنة التي أشرفت على المصحف الأميريّ بين يدي سورة يوسف وهم من علماء الأزهر..
رابعاً: ضعّف دعوى مدنية هذه الآيات غير واحد من أهل العلم.
فقد قال الإمام السيوطي -رحمه الله- بعد أن ذكر ما حكاه أبو حيّان من استثناء الآيات الثلاث الأول: "وهو واه جداً لا يلتفت إليه"الإتقان (۱/ ٤٥)..
وقال الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- "وما قيل من أن الثلاث الأولى منها مدنيات فلا تصح روايته ولا يظهر له وجه، وهو يخل بنظم الكلام"تفسير المنار (۱۲/ ۲٥۰)..
وقال أيضًا بعد أن ذكر قول السيوطي الذي أوردناه قبل قليل "ومن العجائب أن يذكر هذا الاستثناء في المصحف المصريّ ويزاد عليه الآية السابعة"تفسير المنار (۱۲/ ۲٥۰)..
خامسًا: وهنا أمر آخر أيضًا ينبغي أن لا يغيب عن بالنا -ونحن في صدد نقد دعوى مدنية هذه الآيات- وهو أن السورة مفتتحة بالأحرف المقطعة، وقد ذكرت ضمن ضوابط المكيّ أن الافتتاح بالحروف المقطعة دليل على مكية السورة عدا البقرة، وآل عمران، وفي الرعد خلاف ¬كل سورة في أولها حروف الهجاء فهي مكية سوى البقرة وآل عمران وفي الرعد خلاف، انظر هذا الضابط في: الإيضاح لمكي (ص ۱۱٤)، جمال القراء (۱/ ۲٤۷)، المفرد للجعبري (۳٥ ق / أ)، فضائل القرآن لابن كثير (ص ۱۱)، البرهان للزركشي (۱/ ۱۸۹)، مصاعد النظر (۱/ ۱٦۱)، الإتقان (۱/ ٥۳)، الزيادة والإحسان في علوم القرآن (۱۲ ق / أ).
مناقشة هذا الضابط:
هذا الضابط - كما ترى - محمول على الغالب والكثرة، وفي هذا يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: "وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس؛ لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبًا، والبقرة وآل عمران مدنيتان، والغالب له الحكم، واخترنا لبيان ذلك سورة هود؛ لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح؛ لأن قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بعد قوله: {الر} واضح جدًا فيما ذكرنا" أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشنقيطي (۷۱۳).¥.
والخلاصة: أن دعوى مدنية هذه الآيات مردودة، ولا ينبغي الالتفات إليها كما قال الإمام السيوطي -رحمه الله-، ولعدم اعتبار هذا الاستثناء قد حكى ابن الجوزي والبقاعي -رحمهما الله تعالى- الإجماع على أن السورة كلها مكية انظر نقل هذا الإجماع (ص: ۳۳٤)..
وفي النهاية أقول: والذي ينبغي أن نعتمد عليه في هذا المقام هو الروايات المطلقة الدالة على أن سورة يوسف مكية من غير استثناء آية منها، هذه هى الروايات الثابتة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ¬أخرج ابن الضريس من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكر فيما نزل بمكة وما أنزل بالمدينة، وسورة يوسف من القسم المكي، انظر: فضائل القرآن لابن الضريس (ص: ۳٤).
وأخرج النحاس من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: "نزلت سورة يوسف بمكة فهي مكية"، الناسخ والمنسوخ للنحاس (۲/ ٤۷٤) وزيادة في التخريج السابق لهذا الأثر فقد عزا السيوطي إلى أبي الشيخ وابن مردويه. انظر: الدر (٤/ ٤۹٤).¥.