الفهرس

سُورة الإسراء
(سورة الإسراء مكية) أجمع المفسرون على أن سورة الإسراء مكية، قال الفيروزآبادي -رحمه الله-: "السورة مكية باتفاق" البصائر (۱/ ۲۸۸).. وقال البقاعي -رحمه الله-: "مكية إجماعًا" مصاعد النظر (۲/ ۲۲۸).. ويقول العلامة الآلوسي -رحمه الله-: "وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير -رضي الله تعالى عنهم- مكية، وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور" روح المعاني (۱٥/ ۲).. وقال ابن عاشور -رحمه الله-: " ... أن السورة كلها مكية على الصحيح" التحرير والتنوير (۱٥/ ۱۸٦).. وقال أيضًا في حديثه عن تحديد وقت نزول السورة: "ويظهر أنها نزلت في زمن كثرت فيه جماعة المسلمين بمكة، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام، وذلك من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} سورة الإسراء، الآيات (۲۳ - ۳۸). " التحرير والتنوير (۱٥/ ٦).. الروايات الدالة على مكية السورة ۱ - الأحاديث الدالة على حادثة الإسراء والمعراج، إذ الإسراء كان قبل الهجرة باتفاق أهل العلم. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والإسراء كان قبل الهجرة بلا خلاف" الفتح (۱/ ٥٤۸).. ومن تلك الأحاديث ما أخرجه الإمام البخاري بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في حديث طويل وفيه: "كان أبو ذر يحدث أن رسول الله قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة .. " ¬صحيح البخاري مع الفتح (۱/ ٥٤۷) برقم (۳٤۹) كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء. من أحسن من اعتنى بجمع أحاديث الإسراء والمعراج الحافظ ابن كثير في تفسيره، وقد جرد تلك الأحاديث مع الإضافة في بعض التعليقات الشيخ إسماعيل الأنصاري، وطبعها في رسالة مستقلة.¥. ۲ - أخرج الإمام البخاري بسنده عن ابن مسعود قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ٦٥٤) برقم (٤۹۹٤) كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن.. وجه الدلالة: في الأثر دليل على أن سورة الإسراء من القرآن الأول الذي نزل بمكة. قال أبو عبيد تعليقًا على هذا الأثر: "قوله: "من تلادي": يقول. من أول ما أخذت من القرآن شبهة بتلاد المال القديم، ومعناه: أنَّ ذلك كان بمكة" فضائل القرآن لأبي عبيد (ص: ۲۲۱).. ويقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والغرض منه هنا أن هذه السور نزلن بمكة وأنها مرتبة في مصحف ابن مسعود كما هي في مصحف عثمان" الفتح (۸/ ٦٥۷).. ۳ - وأخرج ابن الضريس من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكر في النزول المكي والمدني، وسورة الإسراء من القسم المكي انظر: فضائل لابن الضريس (ص: ۳٤).. ٤ - وأخرج النحاس من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: "نزلت سورة بني إسرائيل بمكة، فهي مكية" الناسخ والمنسوخ للنحاس (۲/ ٤۸۹).. ٥ - وأخرج ابن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: "نزلت سورة بني إسرائيل بمكة" الدر (٥/ ۱۸۱).. ٦ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق فضيل بن الحسين عن حسان بن إبراهيم عن أمية الأزدي عن جابر بن زيد، فذكر السور المكية والمدنية، وسورة الإسراء من القسم المكي انظر: البيان للداني (ص: ۱۳٦).. ۷ - وأخرج البيهقي من طريق علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن، فذكرا السور المكية والمدنية، وسورة الإسراء من القسم المكي انظر: دلائل النبوة (۷/ ۱٤۲ - ۱٤۳).. ۸ - وأخرج ابن الأنباري من طريق حجاج بن منهال عن همام عن قتادة، فذكر السور المدنية، وقال في القسم المكي: "وسائر القرآن نزل بمكة"، ومنها سورة الإسراء انظر: تفسير القرطبي (۱/ ٦۱ - ٦۲).. ۹ - وأخرج أبو عبيد من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، فذكر السور المدنية، وقال في القسم المكي: "وسائر ذلك بمكة"، ومن بينها سورة الإسراء انظر: فضائل القرآن لأبي عبيد (ص: ۳٤۰) برقم (۷۹٦).. ۱۰ - وأورد الزهري ترتيب السور المكية والمدنية، وسورة الإسراء من القسم المكي انظر: تنزيل القرآن (ص: ۲۷).. ۱۱ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام البصري عن أئمته أن سورة الإسراء مكية انظر: البيان للداني (ص: ۱۷۷).. ۱۲ - وذكر أبو القاسم النيسابوري ترتيب السور المكية والمدنية، وسورة الإسراء ضمن القسم المكي انظر: التنزيل وترتيبه (۲۲۳ ق/ أ).. ۱۳ - وأورد ابن شيطا في روايته للمكي والمدني السور المدنية ثم قال: "وباقي سور القرآن الخمس والثمانون مكية"، ومنها سورة الإسراء انظر: فنون الأفنان (ص: ۳۳۷ - ۳۳۸).. بعض روايات أسباب النزول الدالة على مكية السورة ۱ - أخرج الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} قال: "نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي بقراءتك فيهم فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} " ¬صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۲٥۷) برقم (٤۷۲۲)، كتاب التفسير، باب {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}. وأخرجه مسلم في صحيحه (۱/ ۳۲۹) برقم (٤٤٦)، كتاب الصلاة، باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة.¥. ۲ - وأخرج الإمام أحمد من طريق الأعمش عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي -صلى اللّه عليه وسلم- أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزدرعوا هكذا في المسند وهي لغة فصيحة بمعنى الزرع. انظر: لسان العرب (۸/ ۱٤۱). فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم، قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} ¬المسند (۱/ ۲٥۸) برقم (۲۳۳۳) مطبعة شاكر. والحديث أخرجه البزار. انظر: كشف الأستار (۳/ ٥٥) برقم (۲۲۲٤)، والنسائي في تفسيره (۱/ ٦٥٥) برقم (۳۱۰)، والطبري في تفسيره (۱٥/ ۱۰۸)، والحاكم في المستدرك (۲/ ۳٦۲)، وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في الدلائل (۲/ ۲۷۱)، والواحدي في أسباب النزول (ص: ۲۸۸)، كلهم من طريق جرير عن الأعمش به. وصححه الهيثمي. انظر: مجمع الزوائد (۷/ ٥۳)، وأحمد شاكر في تعليقه على المسند.¥. الآيات المدعى مدنيتها في سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (۲٦)} سورة الإسراء، الآية (۲٦).. نسب القول بمدنية هذه الآية إلى علي بن الحسين زين العابدين ¬انظر: بيان ابن عبد الكافي (۳۲ ق/ أ)، معالم التنزيل (٥/ ۸۹)، المحرر الوجيز (۱۰/ ۲۸۱). وعلي بن الحسين زين العابدين هو ابن الحسين بن علي بن أبي طالب يكنى أبا الحسن ويقال أبا الحسين، توفي -رحمه الله- سنة (۹٤ هـ). ترجمته: وفيات الأعيان (۳/ ۲٦٦).¥، كما نسب أيضًا إلى الحسن البصري القول بذلك ينظر: بيان ابن عبد الكافي (۳۲ ق/ أ)، روح المعاني (۱٥/ ۲).، ولعل الذين نسبوا إليهما ذلك القول اعتمدوا على ما روي عنهما أنهما قالا: نزلت في قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬ينظر: زاد المسير (٥/ ۲۷)، البحر المحيط (۷/ ٤۰)، التحرير والتنوير (۱٥/ ۷٦). هذا ولم أجد أي سند لما روي عن الحسن البصري من أنه فسَّر القرابة هنا بأنها قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل وجدت عند الطبري بسند حسن من طريق عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا حبيب المعلم، قال: سأل رجل الحسن، قال: أعطي قرابتي زكاة مالي، فقال: إن لهم في ذلك لحقًا سوى الزكاة، ثم تلا هذه الآية: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}. تفسير الطبري (۱٥/ ۷۱). وذكر ابن الجوزي في تفسيره أن الحسن قال في تفسير المراد بالقرابة هنا: "إنه قرابة الرجل من قبل أبيه وأمه". زاد المسير (٥/ ۲۷)، وانظر أيضًا تفسير الحسن البصري جمع الدكتور محمد عبد الرحيم (۲/ ۸۲) نقلًا عن ابن الجوزي.¥. منشأ الخلاف في مكية هذه الآية أو مدنيتها: إن منشأ الخلاف في هذه الآية هو اختلاف أهل التفسير في تفسير ذي القرابة في الآية الكريمة، فمنهم من فسر القرابة هنا بأنها قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومقتضى هذا التفسير أن الآية مدنية، إذ إن حقوق قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تشرع إلا في المرحلة المدنية ينظر: التحرير والتنوير (۱٥/ ۷٦).، ومنهم من فسر - وهو قول جمهور المفسرين - بقرابة الرجل من قبل أبيه وأمه، وذلك أن سياق هذه الآية كان عقب أن تحدث الله تبارك وتعالى ببر الوالدين، فَحَمْلُهَا على قرابة النسب إذًا أولى من الحمل على غيرها ينظر: تفسير الطبري (۱٥/ ۷۲).. مستند القول بمدنية هذه الآية: تستند هذه الدعوى على دليلين وهما: الدليل الأول: ما أخرجه الحافظ البزار في مسنده حيث قال: حَدَّثَنَا عباد بن يعقوب، حَدَّثَنَا أبو يحيى التيمي، حَدَّثَنَا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة فأعطاها فدك" وفَدَك بالتحريك، وآخره كاف، قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة أفاءها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع صلحًا، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب. معجم البلدان (٤/ ۲۷۰). ¬كشف الأستار (۳/ ٥٥) برقم (۲۲۲۳) وانظر أيضًا: مختصر زوائد مسند البزار لابن حجر (۲/ ۹۰) برقم (۱٤۷٦)، والأثر أخرجه أبو يعلى في مسنده من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مثله (۲/ ۳۳٤) برقم (۱۰۷٥) و (۲/ ٥۳٤) برقم (۱٤۰۹)، وزاد السيوطي نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. انظر: الدر (٥/ ۲۷۳)، وقال البزار: "لا نعلم رواه إلا أبو سعيد، ولا حدث به عن عطية إلا فضيل، ورواه عن فضيل أبو يحيى، وحميد بن حماد، وابن أبي الخوار". كشف الأستار (۳/ ٥٥). وقال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه عطية العوفي وهو ضعيف متروك". المجمع (۷/ ٥۲). قلت: وقد فات الهيثمي أن ينسبه إلى البزار وأبي يعلى، وقال الحافظ ابن حجر: "هما - أي فضيل وعطية - ضعيفان". مختصر زوائد مسند البزار (۲/ ۹۰).¥. الدليل الثاني: ما أخرجه الطبري في تفسيره من طريق الصباح بن يحيى المزني عن السدي عن أبي الديلم قال: قال على بن الحسين عليهما السلام لرجل من أهل الشام: "أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أفما قرأت في بني إسرائيل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قال: وإنكم للقرابة التي أمر الله جل ثناؤه أن يؤتى حقه؟ قال: نعم" تفسير الطبري (۱٥/ ۷۲)، قال أحمد شاكر تعليقًا على هذا الإسناد: "ضعيف جدًا أو باطل". مذكرة أسانيد الإمام الطبري (ص: ٦۰).. مناقشة هذا المستند: لقد تبين من خلال الحكم على الروايتين اللتين استندت إليهما دعوى مدنية هذه الآية ضعف تلك الروايتين، وأنهما لا تقوم بهما حجة، وعلاوة على ذلك فإن الروايات الصحيحة تدلنا على أن هذه الآية لا علاقة لها بقرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لا من قريب ولا من بعيد، ففي مسند الإمام أحمد من طريق خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أنس بن مالك أنه قال: أتى رجل من بني تميم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين، فقال: يا رسول الله أقلل لي، فقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمها على من بدَّلها" ¬المسند (۳/ ۱۷۲) برقم (۱۲۳۷۹) طبعة المكتب الإسلامي المرقمة. والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق الليث عن خالد بن يزيد به (۲/ ۳٦۱)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وسكت عنه الذهبي. وقال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح". المجمع (۳/ ٦٦).¥. وهكذا يبدو من خلال رواية الإمام أحمد عدم وجاهة قول من قال: إن القرابة هنا قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. نماذج من أقوال المفسرين تدلنا أيضًا على ضعف التفسير القائل: إن المراد بالقرابة هنا قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ۱ - قول الطبري: قال الطبري -رحمه الله- بعد أن ذكر التفسيرين اللذين ذكرنا واللذان كانا منشأ الخلاف في مكية هذه الآية أو مدنيتها ما نصه: "وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من تأول أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قبل آبائهم وأمهاتهم، وذلك أن الله عز وجل عقَّب ذلك عقيب حضه عباده على بر الآباء والأمهات، فالواجب أن يكون ذلك حضًا على صلة أنسابهم دون أنسابهم التي لم يجر لها ذكر" تفسير الطبري (۱٥/ ۷۲).. ۲ - قول ابن عطية: وقال ابن عطية -رحمه الله- حاكيًا خلاف أهل التفسير في المراد بالقرابة هنا: "اختلف المتأولون في ذوي القربى، فقال الجمهور: إن الآية وصية للناس كلهم بصلة قراباتهم، خوطب بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد الأمة، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسدّ الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم. وقال علي بن الحسين في هذه الآية: هم قرابة النبي - عَلَيْهِ السَّلَام -، أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَام - بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، والقول الأول أبين، ويعضده العطف بالمسكين وابن السبيل" المحرر الوجيز (۱۰/ ۲۸۱).. ۳ - قول الحافظ ابن كثير: وقال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن أورد رواية البزار السابقة في تفسيره: "وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده؛ لأن الآية مكية وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ فهو حديث منكر، الأشبه أنه من وضع الرافضة، والله أعلم" تفسير ابن كثير (۳/ ۳۹).. ٤ - قول الآلوسي: وقال الآلوسي - رحمه الله - بعد أن ذكر قول من قال: إن المراد بالقرابة هنا هي قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "وضعّف بأنه لا قرينة على التَّخْصِيص، وأجيب بأن الخطاب قرينة، وفيه نظر" روح المعاني (۱٥/ ٦۲).. وقال أيضًا مشيرًا إلى ضعف رواية البزار السابقة: "وما أخرجه البزار ... لا يدلُّ على تخصيص الخطاب به عليه الصلاة والسلام، على أن في القلب من صحة الخبر شيء هكذا في روح المعاني بالرفع، والصواب هو النصب لكونه اسم "أن" المؤخر ولعله خطأ مطبعي. بناءً على أن السورة مكية، وليست هذه الآية من المستثنيات، وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل طلبها رضي الله تعالى عنها إرثًا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كما هو المشهور، يأبى القول بالصحة كما لا يخفى" روح المعاني (۱٥/ ٦۲ - ٦۳).. ٥ - قول الشوكاني: وقال الشوكاني -رحمه الله- بعد أن أورد في تفسيره رواية الطبري عن علي بن الحسين زين العابدين السابقة: "وأقول: ليس في السياق ما يفيد هذا التَّخْصِيص ولا دل على ذلك دليل، ومعنى النظم القرآني واضح إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة؛ لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها، وإن كان الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأول، وإن كان الخطاب له من دون تعريض فأمته أسوته، فالأمر له - صلى الله عليه وسلم - بإيتاء ذي القربى حقه أمر لكل فرد من أفراد أمته، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل ما قبل هذه الآية، وهى قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وما بعدها وهي قوله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (۲٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} فتح القدير (۳/ ۲۲٤).. ٦ - قول ابن عاشور: وقال ابن عاشور -رحمه الله-: "وليس لها تعلق بحقوق قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن حقوقهم في المال تقررت بعد الهجرة لما فرضت الزكاة وشرعت المغانم والأفياء وقسمتها، ولذلك حمل جمهور العلماء هذه الآية على حقوق قرابة النسب بين الناس" التحرير والتنوير (۱٥/ ۷٦).. وبعد: فهذه أقوال نقاد التفسير وفرسانه بين أيدينا تؤيده الروايات الصحيحة كما سبق فأين هذا إذًا من تفسير أشبه ما يكون كما قال الحافظ ابن كثير "أنه من وضع الرافضة" تفسير ابن كثير (۳/ ۳۹).. في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} سورة الإسراء، الآية (۲۹).. أورد الإمام السيوطي - رحمه الله - في "لباب النقول" رواية من طريق ابن مردويه، ومقتضى هذه الرواية أن الآية المذكورة مدنية، وفيما يلي نصها: "وأخرج أيضًا - أي ابن مردويه - عن أبى أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: أنفق ما على ظهر كفى، قال: إذن لا يبقى شيء فأنزل الله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية" لباب النقول (ص: ۱۳٦)، والحديث أورده السيوطي أيضًا في الدر (٥/ ۲۷٦)، وذكره الشوكاني في فتح القدير (۳/ ۲۲٥)، وانظر أيضًا: مرويات أم المؤمنين عائشة في التفسير للدكتور سعود الفنيسان (ص: ۲۳٦) برقم (۳۸٤).. وجه الدلالة: في الرواية دلالة واضحة على أن الحوار وقع بالمدينة إذ مما هو معلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل بعائشة إلا بالمدينة انظر النصوص وأقوال أهل العلم الدالة على ذلك (ص: ۳۷۳ - ۳۷٤).، ولأجل هذا قال الإمام السيوطي -رحمه الله- بعد إيراده الرواية: "وظاهر ذلك أنها مدنية" لباب النقول (ص: ۱۳٦).. مناقشة هذه الرواية: لم أجد من ذكر هذه الرواية من أصحاب التفاسير المعتمدة، فقد ساق الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية روايات عديدة كلها في باب الإنفاق، ولم يعرج على هذه الرواية انظر: تفسير ابن كثير (۳/ ٤۰ - ٤۱).. ولعل إهمال محققي المفسرين لهذه الرواية فيه إشارة إلى ضعفها، ويبدو - والله أعلم - أن الرواية معلومة متنًا، وقد أشار إليه الإمام الشوكاني -رحمه الله- فقال: "ويقدح في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بعائشة إلا بعد الهجرة" فتح القدير (۳/ ۲۲٥).. والخلاصة: لو كان إسناد ابن مردويه في الرواية بين أيدينا لوجدنا القول الفصل فيها، ولكن مخالفة الرواية للروايات الصحيحة تجعلنا نقول بإعلالها. في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (۳۲) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} سورة الإسراء، الآيتان (۳۲ - ۳۳).. نسب القول بمدنية هاتين الآيتين إلى الحسن البصري انظر: روح المعاني (۱٥/ ۲).، ولم أجد أي أثر عن الحسن يثبت مدى صحة هذه النسبة. ويبدو - والله أعلم - أن ما يستشف من الآيتين من الحديث عن بعض التشريعات هو الدافع إلى القول بمدنيتهما قال ابن عاشور - رحمه الله - في نقده لدعوى مدنية الآية الأولى: "وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة ولا وجه لذلك الزعم" التحرير والتنوير (۱٥/ ۹۱).. ويمضي ابن عاشور في نقده بعد ذلك إلى الآية الثانية فيقول: "ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون نازلة بمكة فزعم أنها مدنية، وقد بينا وجه مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية هكذا في التحرير والتنوير، وهو تصحيف، والصواب: "مدنية". في صدر هذه السورة" التحرير والتنوير (۱٥/ ۹٦).. وهذه الإحالة التي يكررها ابن عاشور -رحمه الله- هي قوله في صدر السورة: "وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة، فغلب على ظن أصحاب تلك الأقوال أن تلك الآي مدنية .... ويظهر أنها نزلت في زمن كثرت فيه جماعة المسلمين بمكة، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام، وذلك من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} سورة الإسراء، الآيات (۲۳ - ۳۸). " التحرير والتنوير (۱٥/ ٦).. والحق أن دعوى خلو السور المكية من التشريعات دعوى منقوضة علمًا بأنها من الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام حول القرآن المكي والمدني، وغرضهم من هذه الشبهة هو الوصول إلى نتيجة هى أن القرآن من صنع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه تأثر بالوضع الذي كان يعيش فيه انظر هذه الشبهة والرد عليها في: مناهل العرفان (۱/ ۲۱۸)، المدخل لأبي شهبة (ص: ۲٤۳).. إن القرآن المكي قد تحدث عن التشريعات ولكن بطريقة إجمالية، وهذا أمر لا بد منه في تربية الأفراد والجماعات إلى طريق الحق، إذ فيه سياسة التدرج في التشريعات، وتربية الأهم على المهمّ. ولا أدل على حديث السور المكية عن قضايا التشريع من آيات الوصايا العشر التي في سورة الأنعام قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ¬سورة الأنعام، الآيات (۱٥۱ - ۱٥۳).. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مشيرًا إلى بعض الآيات المكية التي تضمنت قضايا تشريعية: "فهذه الأمور - أي ما تضمنته آيات الوصايا العشر - هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع، كعامة ما في السور المكية، فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله، إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة" مجموع الفتاوى (۱٥/ ۱٦۰).. وقال الشيخ محمود شلتوت: "ومن المعلوم أن المكي - وهو ما نزل قبل الهجرة - يتضمن أصول الدعوة، وهى قضايا التوحيد، والوحي، والبعث، كما يتضمن الإشارة إلى أمهات الأخلاق الفاضلة ... " تفسير القرآن الكريم - الأجزاء العشرة الأولى - للشيخ شلتوت (ص: ٥۱٤).. وتقول الدكتورة عائشة بنت الشاطئ: "إن عناية القرآن المكي اتجهت في العهد المكي إلى تقرير أصول الدعوة، وفي العهد المدني إلى التشريع، وبيان الأحكام، ولا يعني هذا أن تخلو السور المكية من أحكام وتشريع، ولا أن تخلو السور المدنية من أصول عامة للعقيدة" التفسير البياني للدكتورة عائشة بنت الشاطئ (۱/ ۷۹).. وخلاصة القول: أن الآيتين مكيتان، وحديثهما عن بعض التشريعات ليس مدعاة للحكم على الآيتين بأنهما مدنيتان، إذ ذلك التشريع من أمهات الفضائل التي كان القرآن المكي يدعو إليها. في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} سورة الإسراء، الآية (٥۷).. ذهب إلى القول بمدنية هذه الآية الحسن البصري انظر: روح المعاني (۱٥/ ۲).، ولم أتمكن - بعد البحث - من الوقوف على مستند هذا القول حتَّى يعرض للمناقشة، ومهما يكن الأمر فإن القول يعارضه ما عليه جمهور أهل العلم من أن آيات سورة الإسراء كلها مكية. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- مشيرًا إلى عدم صحة استثناءات آيات هذه السورة: "قيل في جميع ذلك إنه مدني، ولا يثبت شيء من ذلك، والجمهور على أن الجميع مكيات، وشذ من قال خلاف ذلك" الفتح (۸/ ۲۸۹).. وقال الآلوسي -رحمه الله-: "وهي - أي سورة الإسراء - كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية، وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور" روح المعاني (۱٥/ ۲).. في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} سورة الإسراء، الآية (٦۰).. عدَّ مقاتل بن سليمان -رحمه الله- هذه الآية ضمن الآيات المدنية من هذه السورة انظر: تفسير مقاتل (۲/ ٥۱۲).، كما أورده السيوطي -رحمه الله- كذلك ضمن الآيات المستثناة من السورة ولم يعز إلى أحد القول بذلك انظر: الإتقان (۱/ ٤٦).. مستند مقاتل في قوله بمدنية الآية: يستند مقاتل بن سليمان -رحمه الله- في القول بمدنية هذه الآية إلى التفسير الذي روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من أنه فسَّر الرؤيا هنا رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرده المشركون، فافتتن المسلمون بذلك، فنزلت الآية ينظر: تفسير القرطبي (۱۰/ ۲۸۲).، ولتتضح الصورة لنورد نص الرواية كما أخرجها الطبري في تفسيره بالإسناد المسلسل بالضعفاء العوفيين فقال: قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: "يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السير إلى مكة قبل الأجل، فرده المشركون، فقالت ¬هكذا في الطبري بالتأنيث، ولعل الصواب هو التذكير لأن الفاعل مذكر عاقل. قال ابن مالكٍ في ألفيته (ص: ۳۲): وتاء تأنيث تلي الماضى إذا ... كان لأنثى كأبت هند الأذى¥ أناس: قد ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان حَدَّثَنَا أنه سيدخلها، فكانت رجعته فتنتهم" تفسير الطبري (۱٥/ ۱۲).. مناقشة هذا المستند: لا أظن أن تفسير ابن عباس السابق يحتاج منا إلى مزيد من المناقشة وقد عرفنا أنه قد روي بإسناد مسلسل بالضعفاء، ولكن زيادة في التوضيح أقول: إن التفسير الصحيح عن ابن عباس لمعنى هذه الرؤيا أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه فقد قال بسنده عنه - رضي الله عنهما - {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} الآية قال: "هى عين أُريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: شجرة الزقوم" صحيح البخارِي مع الفتح (۸/ ۲٥۰) برقم (٤۷۱٦) كتاب التفسير، باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} والحديث أخرجه البخاري أيضًا في مناقب الأنصار برقم (۳۸۸۸) وفي كتاب القَدر أيضًا برقم (٦٦۱۳).. ومما يثير العجب في أن أبا شامة المقدسي ¬هو شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الشافعي، له من المؤلفات إبراز المعاني من حرز الأماني - شرح الشاطبية - والمرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، توفي -رحمه الله- سنة (٦٦٥ هـ). ترجمته: طبقات الشافعية للسبكي (۸/ ۱٦٥ - ۱٦۸)، فوات الوفيات (۲/ ۲٦۹ - ۲۷۱).¥ استحسن التفسير الضعيف المروي عن ابن عباس، بل علق صحة القول بمدنية هذه الآية بصحة ذلك التفسير، فيقول ما نصه: "وهذا التفسير حسن إلا أنه متوقف على ثبوت كون هذه الآية مدنية؛ فإن السورة مكية إلا ما استثني منها، وهو ثمان آيات، من قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {سُلْطَانًا نَصِيرًا} لكن إن صح النقل في تفسير هذه الآية عن ابن عباس فهذه الآية أيضًا مدنية" نور المسْرَى في تفسير آية الإسراء لأبي شامة المقدسي (ص: ۱۱۲).. والواقع كما سبق آنفًا أن هذا التفسير روي بإسناد مسلسل بالضعفاء فلا يمكن الاعتماد عليه، ويبدو - والله أعلم - أن الذين رووا هذا التفسير عن ابن عباس قد اشتبه عليهم بين الرؤيا المذكورة في هذه الآية وبين الرؤيا المذكورة في آية الفتح إذ الرؤيا إلى رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيدخل مكة هو وأصحابه كانت في العام السادس من الهجرة، وقد نزل في العام الذي يليه - أي عام عمرة القضاء - قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ... } الآية سورة الفتح، الآية (۲۷) ينظر تحديد وقت نزول الآية في: تفسير ابن كثير (٤/ ۲۱٥).. أقوال أخرى ضعيفة آيضًا وردت في تفسير المراد بالرؤيا هنا: ومن الأقوال الضعيفة في معنى هذه الرؤيا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أريت بني أمية على منابر الأرض، وسيتملكونكم، فتجدونهم أرباب سوء"، واهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك فأنزل الله {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} الدر (٥/ ۳۰۹).. وبنحو هذا أخرجه ابن مردويه في تفسيره عن الحسين بن علي - رضي الله عنهما - الدر (٥/ ۳۱۰).، وروي عن سعيد بن المسيب نحو ذلك أيضًا ¬عزا السيوطي قول سعيد إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر. انظر: الدر (٥/ ۳۱۰)، وانظر رواية البيهقي في الدلائل (٥۰۹۱٦).¥. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بعد أن أورد رواية عطية العوفي عن ابن عباس السابقة، وكذلك الروايات الواردة في شأن بني أمية قال: "وأسانيد الكل ضعيفة" الفتح (۸/ ۲٥۰).. وقال السيوطي -رحمه الله-: "وأسانيدها ضعيفة" لباب النقول (ص: ۱۳۸).. ومن الأقوال أيضًا ما حكاه الرازي في تفسيره عن بعض أهل العلم أنهم أوَّلوا الرؤيا هنا رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصارع كفار قريش يوم بدر انظر: تفسير الرازي (۲۰/ ۲۳۷)، وانظر أيضًا: التحرير والتنوير (۱٥/ ۱٤٦).. الأدلة العقلية على أن المراد بالرؤيا هنا هي رؤيا ليلة الإسراء: الدليل الأول: قوله تعالى: {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} فيه دليل واضح على أن الرؤيا هي رؤيا ليلة الإسراء؛ إذ رؤيا المنامَ لا يفتتن بها أحد، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "ومن الأدلة الواضحة على ذلك - أي كون الرؤيا رؤيا ليلة الإسراء - أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة، ولا سببًا لتكذيب قريش؛ لأن المنام ليست محل إنكار؛ لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح، فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب" ¬أضواء البيان (۳/ ۳۹۱ - ۳۹۲). وليعلم أنني لم أتحدث في صدد الحديث عن هذه الآية ما يتعلق برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه هل كانت يقظة أم منامًا؟ وهل كان الإسراء بروحه أم بروحه وجسده؟ إذ ليس هذا مجال بحثنا، ومن أراد الاطلاع على ذلك فليرجع إلى: نور المسرى في تفسير آية الإسراء لأبي شامة المقدسي (ص: ۱۰٤ - ۱۲۷)، وزاد المعاد (۲/ ۳٤ - ٤۲)، وتفسير ابن كثير (۳/ ۲٤ - ۲٦)، والسيرة النبوية له (۲/ ۱۰٤ - ۱۰۷)، والفتح (۷/ ۲٥۹) و (۸/ ٤۷۳ - ٤۷٥)، وأضواء البيان (۳/ ۳۹۱ - ۳۹٦). كما أن هناك دراسات حديثة جادة تحدثت عن هذا الموضوع كدراسة الدكتور محمد محمد أبى شهبة "الإسراء والمعراج"، ودراسة الدكتور رفعت فوزي "أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية".¥. الدليل الثاني: أن لفظ "الرؤيا" في الآية بمعنى الرؤية - أي رؤية العين - فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا، فقد نقل صاحب اللسان ¬هو أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، توفي - رحمه الله - سنة (۷۱۱ هـ). ترجمته: الدرر الكامنة (٥/ ۳۱ - ۳۳)، بغية الوعاة (۱/ ۲٤۸). هذا وللدكتور رضوان علي دراسة بعنوان: استخراج تفسير القرآن من لسان العرب، استخلصها من خلال تفاسير أهل اللغة لآيات الذكر الحكيم. انظر: أخبار التراث العربى، العدد (۲۱) (ص: ۱۹)، السنة (۱٤۰٦ هـ).¥ - رحمه الله - قول العربي الراعي: فكبر للرؤيا وهشَّ فؤاده ... وَبشَّر نفسًا كان قبل يلومها لسان العرب (۱٤/ ۲۹۷). وعلَّق على هذا البيت بقوله: "وعليه فسِّر قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} " (۱٤/ ۲۹۷).. ومنه قول أبي الطيب المتنبي ¬هو أحمد بن حسين بن حسن الجعفي الكوفي، كان شاعرًا بلغ الذروة في الشعر، قتل سنة (۳٥٤ هـ). ترجمته: تاريخ بغداد (٤/ ۱۰۲ - ۱۰٥) برقم (۱۷٥۸)، نزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الأنباري (ص: ۲۱۹ - ۲۲۳).¥: مضى الليل الذي لك لا يمضى ... ورؤياك أحلى في العيون من الغَمْض ديوان المتنبي (۲/ ۲۱۹)، والشطر الثاني من البيت أورده صاحب اللسان. انظر: (۱٤/ ۲۹۷). وقد يقول قائل: إن لفظ "الرؤيا" لا يطلق إلا على رؤيا المنام، فكيف يصح إذًا تفسيرها بهذه الآية؟ والجواب على السؤال ذكره بعض أهل العلم، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في معرض شرحه لحديث ابن عباس السابق: "واستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة" الفتح (۸/ ۲٥۰).. وقال أيضًا بعد إيراده بيت المتنبي الذي ذكرناه آنفًا: "وهذا التفسير - أي تفسير ابن عباس - يرد على من خطأه" الفتح (۸/ ۲٥۰).. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ إلا على رؤيا المنام مردود، بل التحقيق أن لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضًا" أضواء البيان (۳/ ۳۹۲).. ويقول الدكتور محمد محمد أبو شهبة -رحمه الله- ردًا على هذه الشبهة: "وليس أدل على ردّ استدلالهم بهذه الآية من قول ابن عباس في تفسيرها: هى رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به ... ومراد ابن عباس برؤيا العين جميع ما عاينه - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية" الإسراء والمعراج لأبي شهبة (ص: ۲۹).. الدليل الثانى: أن مجيء الوصف في قوله تعالى: {الَّتِي أَرَيْنَاكَ} لدليل على أن الرؤيا هنا هى رؤيا عين، قال ابن عاشور -رحمه الله-: "ويؤيد القول بأن المراد رؤيا عين قوله تعالى: {الَّتِي أَرَيْنَاكَ} فإنه وصف للرؤيا ليعلم أنها رؤية عين" التحرير والتنوير (۱٥/ ۱٤٦).. نماذج من أقوال بعض المفسرين تدلنا على أن المراد بالرؤيا هنا هي رؤيا ليلة الإسراء وأن القول بغير ذلك قول ضعيف: ۱ - قول الطبري: قال الطبري -رحمه الله- بعد أن استعرض الأقوال التي فسرت بهذه الرؤيا: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى به رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس، وبيت المقدس ليلة أسري به، وقد ذكرنا بعض ذلك في أول هذه السورة، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عنى الله عز وجل بها" تفسير الطبري (۱٥/ ۱۱۳).. ۲ - قول الرازي: قال الرازي -رحمه الله- مرجحًا أن المراد بالرؤيا هنا هى رؤيا ليلة الإسراء: "وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء" تفسير الرازي (۲۰/ ۲۳۸).. ۳ - قول القرطبي: قال القرطبي -رحمه الله- معقبًا على التفسير المروي عن ابن عباس من أن هذه الرؤيا هى رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يدخل مكة عام الحديبية قال: "وفي هذا التأويل ضعف؛ لأن السورة مكية، وتلك الرؤيا كانت بالمدينة" تفسير القرطبي (۱۰/ ۲۸۲).. ٤ - قول ابن كثير: قال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن أورد في تفسيره حديث البخاري عن ابن عباس: "وهكذا فسر ذلك - أي الرؤيا - بليلة الإسراء مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد" تفسير ابن كثير (۳/ ٥۲).. ٥ - قول صديق حسن خان: قال -رحمه الله- بعد أن ذكر الأقوال التي قيلت في نزول هذه الآية: "وقد تعارضت هذه الأسباب ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح، والراجح كثرة وصحة كون سبب نزول هذه الآية قصة الإسراء فتعين ذلك" فتح البيان (٥/ ۳۷٥).. ٦ - قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطى: يقول -رحمه الله- بعد أن ذكر قول الجمهور في تفسير هذه الرؤيا: "وزعم بعضِ أهل العلم: أن المراد بالرؤيا في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ... } الآية رؤيا منام، وأنها هي المذكورة في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ... } الآية، والحق الأول" أضواء البيان (۳/ ۳۹۲).. هذا وقد ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- أن بعض أهل العلم استنبط من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} مكية هذه الآية، بدليل أن هناك آيات مكية ومدنية فسرت معنى هذه الإحاطة، فيقول: "قال بعض أهل العلم: ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} سورة القمر، الآية (٤٥). وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} الآية سورة آل عمران، الآية (۱۲).، وقوله: {وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} جزء من الآية (٦۷) سورة المائدة. وفي هذا أن هذه الآية مكية، وبعض الآيات المذكورة مدني، أما آية القمر وهي قوله: {سَيُهزَمُ الجَمعُ} الآية فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية" أضواء البيان (۳/ ٦۰۲ - ٦۰۳).. ولعل سائلًا يسأل بعد كل ما ذكرنا من أدلة نقلية وعقلية وأقوال لبعض نقاد المفسرين في تفسير المراد بالرؤيا هنا فيقول: ألا يمكن تفسير هذه الرؤيا بالروايات الضعيفة السابقة باعتبار أن الرؤيا كانت في مكة، وتلك الوقائع كانت بالمدينة بعد ذلك؟ قلت: حكى بعض محققي المفسرين الإجماع على أن المراد بالرؤيا هنا هي رؤيا ليلة اللإسراء، هذا من جهة قال الطبري -رحمه الله- بعد أن استعرض الأقوال التي فسرت بهذه الرؤيا: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى به رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس، وبيت المقدس ليلة أسري به، وقد ذكرنا بعض ذلك في أول هذه السورة، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عنى الله عز وجل بها" تفسير الطبري (۱٥/ ۱۱۳).، ومن جهة ثانية أن رواية ابن عباس في البخاري نص في ذلك، وهي مقدمة على غيرها بلا شكَّ، ومعلوم أن من القواعد إلى يقوم عليها منهج أهل السنة والجماعة عدم العدول عن النص الصحيح، وعدم معارضته بالمعقول في نفس الوقت انظر هذه القاعدة في: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص: ۳٥٤)، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (۱/ ۲۰۸ - ۲۰۹).. وخلاصة القول: أن دعوى مدنية هذه الآية دعوى من الضعف بمكان، فالمعتمد في تفسير الرؤيا هو رواية ابن عباس في البخاري، والله أعلم. في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (۷۳) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (۷٤) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} سورة الإسراء، الآيات (۷۳ - ۷٥).. هذه الآيات من الآيات التي قيل إنهن مدنيات ومستثناة من هذه السورة المكية. وقد ذهب إلى مدنيتهن بعض المفسرين مع اختلافهم في القدر المدني من هذه الآيات، فمنهم من يقول: إن الآيات الثلاث كلهن مدنيات، وهذا القول هو قول مقاتل بن سليمان ينظر: تفسير مقاتل (۲/ ٥۱۲).، والغزنوي ينظر: مصاعد النظر (۲/ ۲۲۸).، وأبى شامة المقدسي ينظر: نور المسرى في تفسير آية الإسراء (ص: ۱۱۲).، ونظام الدين النيسابوري ينظر: غرائب القرآن ورغائب الفرقان (۱٥/ ۳).، وقد نسب إلى ابن عباس وقتادة ينظر: بيان ابن عبد الكافي (۳۲ ق/ أ - ب)، النكت والعيون (۳/ ۲۲۳)، زاد المسير (٥/ ۳)، روح المعاني (۱٥/ ۲).. كما يرى آخرون أن المدني من هذه الآيات آية واحدة، وإليه ذهب أبو القاسم النيسابوري حيث قال: "سورة بني إسرائيل مكية غير قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني ثقيفًا هي قبيلة منازلها في جبل الحجاز، بين مكة والطائف. انظر: معجم قبائل العرب القديمة والحديثة لكحالة (۱/ ۱٤۷)، معجم قبائل الحجاز لعاتق البلادي (ص: ٦٦ - ٦۷).، وله قصة" التنزيل وترتيبه (۲۲٦ ق / ب).. وقد ذكره الزركشى نقلًا عن أبي القاسم النيسابوري انظر: البرهان (۱/ ۲۰۱) هذا، وقد نسب الدكتور عادل أبو العلا نص أبي القاسم النيسابوري السابق إلى الزركشي، ولعله لم يدر أن باب المكي والمدني في البرهان منقول برمته من كتاب "التنزيل وترتيبه" لأبي القاسم النيسابوري.. مستند القول بمدنية هذه الآيات: قال السيوطي -رحمه الله-: "ومن جعلها مدنية استدل بما أخرجه ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن شعبًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أجلنا سنة حتَّى يُهدى إلى آلهتنا، فإن قبضنا الذي يهدى للآلهة أحْرَزناه بفتح الراء وإسكان الزاي، يقال: أحرز الشيء إذا حفظه وصانه عن الأخذ. انظر: النهاية في غريب الحديث (۱/ ۳٦٦)، لسان العرب (٥/ ۳۳۳).، ثم أسلمنا فهمَّ أن يؤجلهم" لباب النقول في أسباب النزول (ص: ۱۳۹)، وقال السيوطي تعليقًا على هذه الرواية: "وإسناده ضعيف".. وجه الدلالة: إن وجه دلالة هذه الرواية على مدنية هذه الآيات هو أن الشعب المذكور في الرواية هم وفد من قبيلة ثقيف كما جاء في رواية الطبري من طريق عطية العوفي - نفسه - عن ابن عباس انظر: تفسير الطبري (۱٥/ ۱۲۹ - ۱۳۰).. وقد ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن قدوم ذلك الوفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في رمضان سنة تسع من الهجرة، وكان ذلك الشهر قد رجع من تبوك وقدم المدينة انظر: البداية والنهاية (٥/ ۲٦).. مناقشة هذا المسند: ومع أن دعوى مدنية هذه الآيات استندت على رواية ضعيفة لا تستوجب منا مزيدًا من التعليق إذ هي مسلسلة بالضعفاء العوفيين، فإن هناك أمورًا أخرى ينبغي أن نضعها بعين الاعتبار: ومن ذلك ما ذكره البعض في سبب نزول هذه الآيات مستدلًا بذلك على مكية هذه الآيات، فقد ذكر السيوطي -رحمه الله- في "لباب النقول" ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق إسحاق هكذا في لباب النقول، والصواب محمد بن إسحاق كما في الدر (٥/ ۳۱۸). عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: "خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد تعال تمسّح بآلهتنا وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرقَّ لهمِ، فأنزل الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله: {نَصِيرًا} " لباب النقول (ص: ۱۳۸) هذه الرواية إحدى الروايات في سبب نزول هذه الآيات كما قيل. وانظر بقية الروايات في لباب النقول (ص: ۱۳۸ - ۱۳۹).. وقد جوَّد السيوطي - رحمه الله - إسناد هذه الرواية، وقال: "هذا أصح ما ورد في سبب نزولها" لباب النقول (ص: ۱۳۸).. قلت: لقد تبين من خلال بحثي في رواية ابن إسحاق في السيرة أنه لم يذكر نزول هذه الآيات أصلًا، فقد وجدته ذكر هذه القصة وأن الذي نزل فيه قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (۱) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ... } إلى آخر السورة ينظر: سيرة ابن هشام (۱/ ۳۷٤).، فلعل السيوطي -رحمه الله- وقف على رواية أخرى غير رواياته في السيرة. لنعد إذًا إلى ما ذكرنا آنفًا من أن ثمة أمورًا ينبغي أن توضع بعين الاعتبار، وهى: أولًا: لا يغيب عن بالنا أن علماءنا - رحمهم الله تعالى - لم يقتصروا عند الحكم على الروايات على إسناد الرواية فحسب، بل تجاوز الأمر إلى البحث في المسائل المتعلقة بالمتن، ولا أدل على ذلك في تعريفهم للحد في الصحيح حيث قالوا: "هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًا ولا معللا" علوم الحديث المشهور بمقدمة ابن الصلاح (ص: ۸).. فالشذوذ والعلة قد يقعان في المتن كما يقعان في الإسناد أيضًا. ولو أردنا أن نستعرض نقد أهل العلم لبعض متون الروايات لطال بنا المقام، ولكن لنضرب مثالين قد مرَّا معنا في هذا البحث: المثال الأول: قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- منتقدًا نزول قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ... } الآية سورة الأنعام، الآية (٥۲). في قصة الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن قال بعد أن أوردها من ابن أبى حاتم: "وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر" تفسير ابن كثير (۲/ ۱۳۹).. المثال الثاني: أورد ابن كثير أيضًا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ... } الآية سورة الإسراء، الآية (۲٦). رواية البزار عن أبي سعيد الخدري حيث قال: "لما نزلت: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة فأعطاها فدك" ¬كشف الأستار (۳/ ٥٥) برقم (۲۲۲۳) وانظر أيضًا: مختصر زوائد مسند البزار لابن حجر (۲/ ۹۰) برقم (۱٤۷٦)، والأثر أخرجه أبو يعلى في مسنده من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مثله (۲/ ۳۳٤) برقم (۱۰۷٥) و (۲/ ٥۳٤) برقم (۱٤۰۹)، وزاد السيوطي نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. انظر: الدر (٥/ ۲۷۳)، وقال البزار: "لا نعلم رواه إلا أبو سعيد، ولا حدث به عن عطية إلا فضيل، ورواه عن فضيل أبو يحيى، وحميد بن حماد، وابن أبي الخوار". كشف الأستار (۳/ ٥٥). وقال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه عطية العوفي وهو ضعيف متروك". المجمع (۷/ ٥۲). قلت: وقد فات الهيثمي أن ينسبه إلى البزار وأبي يعلى، وقال الحافظ ابن حجر: "هما - أي فضيل وعطية - ضعيفان". مختصر زوائد مسند البزار (۲/ ۹۰).¥. ثم قال ابن كثير تعليقًا على هذه الرواية: "وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده؛ لأن الآية مكية، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ فهو حديث منكر، الأشبه أنه من وضع الرافضة والله أعلم" تفسير ابن كثير (۳/ ۳۹).. ورحم الله الإمام الثوري فعبارته نفيسة في هذا المقام حيث يقول: "لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ" ¬الكفاية للخطيب البغدادي (ص: ۱۹۳)، ولعل الإمام ابن القيم -رحمه الله- أجود من كتب في موضوع نقد متون السنة من خلال كتابه النفيس: "المنار المنيف في الصحيح والضعيف"، كما أن هناك دراسات حديثة تناولت هذا الموضوع أيضًا منها: أ - منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر. ۲ - مقاييس نقد متون السنة للدكتور مسفر الدمييني. ۳ - منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي لصلاح الدين الأدلبي. ولكن ما زال موضوع النقد بصفة عامة يحتاج إلى مزيد من الجهد والعناية في كل الدراسات الإسلامية ليس في علوم السنة فحسب.¥. ثانيًا: وعلى ضوء ما قررنا في الفقرة السابقة من اهتمام علمائنا بموضوع المتن نجد أن المحققين قد تكلموا على الأسباب التي قيلت في هذه الآيات، وذلك لمساسها بعصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ كيف يتصور من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُحَدِّث نفسه باستلام آلهة هؤلاء القوم؟ ألا يمس هذا جوهر رسالته عليه الصلاة والسلام - أعني التوحيد - حاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون كذلك وهو القدوة للمسلمين. فها هو الطبري -رحمه الله- يقول بعد أن استعرض ما قيل في الفتنة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}: "فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره حتَّى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عني بذلك منه" تفسير الطبري (۱٥/ ۱۳۰).. وقال القفال الشاشي هو الإمام العلامة أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشافعي القفال الكبير، توفي -رحمه الله- سنة (۳٦٥ هـ). ترجمته: السير (۱٦/ ۲۸۳ - ۲۸٥)، طبقات الشافعية للسبكي (۳/ ۲۰۰ - ۲۲۲)، طبقات المفسرين للداوودي (۲/ ۱۹۸ - ۲۰۰). -رحمه الله- كما نقله الرازي في تفسيره: "قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة، ويمكن أيضًا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه؛ لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (۱) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، وقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} سورة القلم، الآية (۹).، وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة، فأنزل الله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} سورة طه، الآية (۱۳۱).، ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} سورة الأنعام، الآية (٥۲). فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب، وذلك أنهم قصدوه أن يفتنوه عن دينه، وأن يزيلوه عن منهجه، فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات" تفسير الرازي (۲۱/ ۲۳ - ۲٤).. وقال ابن الجوزي -رحمه الله- تعقيبًا على الرواية القائلة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ أن يلم بآلهة الكفار، وكذلك رواية قصة وفد ثقيف والتي كانت من طريق عطية قال: "وهذا باطل لا يجوز أن يظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن ينتظرهم سنة، وكل ذلك محال في حقه وفي حق الصحابة أنهم رووا عنه" زاد المسير (٥/ ٦۷ - ٦۸).. هذا وقد فسر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذه الآيات ولم يعرج على شيء من تلك الروايات، الأمر الذي يدلنا على أنه لا يصح عنده شيء من ذلك انظر: تفسير ابن كثير (۳/ ٥٦).. وللعلامة الآلوسي -رحمه الله- كلام نفيس في الكلام على هذه الروايات حيث قال بعد أن ذكر بعض تلك الروايات: "وفي ذلك روايات أخر مختلقة أيضًا، وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكاد يؤول، وذلك يدلُّ على الوضع، والتفسير لا يتوقف على شيء من ذلك" روح المعاني (۱٥/ ۱۲۸).. وقال الثعالبي في تفسيره بعد أن ذكر بعض الروايات التي ذكرنا: "والله أعلم بصحة هذه التأويلات، وقد تقدم ما يجب اعتقاده في حق النبي فالتزمه تفلح" الجواهر الحسان في تفسير القرآن (۲/ ٤۸۸).. ويدلي ابن عاشور -رحمه الله- بدلوه كذلك في نقد روايات أسباب نزول هذه الآيات فيقول بعد أن ذكر بعض الأوجه التفسيرية لقوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... } الآية: "وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية، استقصاها القرطبي، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن لسنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف" التحرير والتنوير (۱٥/ ۱۷۲).. وبعد هذا العرض السريع لبعض أقوال أهل العلم نستطيع أن نقول: إن بعض روايات أسباب نزول هذه الآيات وإن كانت صريحة في أن هذه الآيات مكيات، إلا أنها لا تتفق مع مقام النبوة، وكلها تخل بعصمته - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أعرض عنها من حاول جمع أسباب النزول المعتمدة كالشيخ مقبل الوادعي، وعصام الحميدان في رسالته: "أسباب النزول وأثرها في التفسير"، فقد ذكر ضمن القسم الضعيف رواية قصة وفد ثقيف فقط انظر: أسباب النزول وأثرها في التفسير (ص: ٥۷٤).، وقد استدل بها من قال بمدنية هذه الآيات. وخلاصة القول: والذي يبدو - والله أعلم - أن قول القفال الشاشي قول وجيه ففيه التفريق بين كون سياق الآيات يعنى بها قريشًا - ويؤيده ما سيأتي من الروايات الثابتة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ... } الآية - سورة الإسراء، الآية (۷٦). وبين أن تجعل الروايات السابقة أسبابًا تضاف إلى الآيات. وعليه فإن هذه الآيات مكيات، وليست مكيتهن مستفادة من تلك الروايات الضعيفة إلى لو أمعن الباحث الدقيق يجدها لا تتفق مع ما عرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثباته على دعوته، واستمساكه برسالته السامية، فمكية تلك الآيات مستفادة من أن الأصل أن تكون آيات هذه السورة مكيات، كما أن سياق الآيات يدلُّ أيضًا على طابعها المكي، ولعل من المستحسن كذلك أن لا يغيب عن بالنا ما ذكرناه سابقًا من حكاية بعض أهل العلم الإجماع على مكية آيات هذه السورة انظر: (ص: ۳٦۰).، والله أعلم. في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (۷٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (۷۷) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (۷۸) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} سوِرة الإسراء، الآيات (۷٦ - ۷۹)، هذا وإن قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} ... الآية وإن كانت داخلة في روايةَ البيهقي الآتية إلا أني أفردت لها بحثًا خاصًا، وذلك لكثرة مباحثها.. روي القول بمدنية هذه الآيات عن ابن عباس ينظر: بيان ابن عبد الكافي (۳۲ ق/ أ - ب)، وتفسير الرازي (۲۰/ ۱٤٦). وقتادة ينظر: بيان ابن عبد الكافي (۳۲ ق / أ - ب)، وروح المعاني (۱٥/ ۲).، كما ذهب إليه بعض المفسرين، وها هي أسماؤهم مرتبة ترتيبًا زمنيًا على حسب وفياتهم: ۱ - الكلبي انظر: تنوير المقباس (ص: ۱۷٦)، وانظر أيضًا: جمال القراء (۱/ ۱۳).. ۲ - مقاتل بن سليمان انظر: تفسير مقاتل (۲/ ٥۱۲).. ۳ - النقاش كما نقله عنه ابن عطية انظر: المحرر الوجيز (۱۰/ ۳۳۰).. ٤ - الغزنوي كما نقله عنه البقاعي انظر: مصاعد النظر (۲/ ۲۲۸).. ٥ - أبو شامة المقدسي انظر: نور المسرى في تفسير آية الإسراء (ص: ۱۱۲).. ٦ - نظام الدين النيسابوري انظر: غرائب القران ورغائب الفرقان للنيسابوري (۱٥/ ۳).. مستند القول بمدنية هذه الآيات: يستند هذا القول إلى ما أخرجه البيهقي -رحمه الله- في "دلائل النبوة" من طريق محمد بن يعقوب عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم: "أن اليهود أتوا رسول الله يومًا فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا أنك نبي فالحق بالشام؛ فإن الشام أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فصدق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عز وجل آيات من سورة بي إسرائيل بعد ما ختمت السورة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} إلى قوله: {تَحْوِيلًا} فأمره الله عزَ وجل بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتكَ ومنها تبعث، ثم قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {مَقَامًا مَحْمُودًا} فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره جبرَيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فقال: سل ربك عز وجلَّ فإن لكل نبي مسألة، وكان جبريل له ناصحًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مطيعًا، فقال: "ما تأمرني أن أسأل" فقال: قل رب أدخلي مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا، فهؤلاء الآيات نزلن عليه في رجعته من تبوك" ¬دلائل النبوة (٥/ ۲٥٤ - ۲٥٥)، وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال الحافظ في التقريب (۱۹۱۱): "ضعيف". وقال السيوطي -رحمه الله- بعد أن أورد هذا الأثر: "وهذا مرسل ضعيف الإسناد". لباب النقول (ص: ۱۳۹). والأثر أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر (٥/ ۳۲۰)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (۱/ ۱٦۷ - ۱٦۸)، وذكره ابن كثير في تفسيره نقلًا عن البيهقي. انظر: تفسير ابن كثير (۳/ ٥۷).¥. مناقشة هذا المسّند: ومع أن رواية البيهقي ضعيفة كما بينت، فإن ثمة أيضًا أدلة تدلنا على نقض دعوى مدنية هذه الآيات، وتنحصر تلك الأدلة فيما يلي: أولًا: أدلة نقلية. ثانيًا: أدلة عقلية. ثالثًا: أقوال نقاد المفسرين. الأدلة النقلية: الدليل الأول: ما ثبت عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - من أن آيات هذه السورة كلها مكية، ولم يستثنيا شيئًا ¬أخرج ابن الضريس من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكر في النزول المكي والمدني، وسورة الإسراء من القسم المكي، انظر: فضائل لابن الضريس (ص: ۳٤). وأخرج ابن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: "نزلت سورة بني إسرائيل بمكة"، الدر (٥/ ۱۸۱).¥. الدليل الثاني: ما أخرجه الطبري -رحمه الله- بسند حسن من طريق يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ... }: "وقد همَّ أهل مكة بإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، ولو فعلوا ذلكَ لما توطّنوا، ولكن الله كفَّهم عن إخراجه حتَّى أمره، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج بني الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة حتَّى بعث الله عليهم القتل يوم بدر" تفسير الطبري (۱٥/ ۱۳۲).. الدليل الثالث: ما صح عن مجاهد -رحمه الله- حيث قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ... } الآية: "لو أخرجت قريش محمدًا لعذبوا بذلك" تفسير الطبري (۱٥/ ۱۳۳).. والرواية من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. الأدلة العقلية: الدليل الأول: أن القرآن الكريم قد دلَّ على أن الذين تسببوا في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - هم قريش، فقد قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} سورة الأنفال، الآية (۳۰).، وقال أيضًا: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} سورة التوبة، الآية (۱۳).، وقال أيضًا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} سورة محمد، الآية (۱۳). إلى غير ذلك من الآياتَ الدالة على أنهم هم المخرجون. ولا شكَّ أن أولى ما يفسر به القرآن هو القرآن، فيحمل إذًا المذكورون في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} على قريش كذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أحسن الطرق في ذلك: أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان، فقد بسط في موضع آخر" مقدمة في أصول التفسير (ص: ۸٤).. الدليل الثاني: أن سياق الآيات يقتضى عود الضمير في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} على قريش، وذلك لقوله تعالى قبل هذه الآية: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}، والصحيح عند أهل العلم أن هذه الآية قد عنى بها قريش. وكما هو مقرر في القواعد النحوية أن عود الضمير إلى مذكور أحسن، كما أنه لا يعود الضمير على غير الأقرب إلا بدليل، ولتتضح لك صحة هذه القاعدة انظر معي قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} سورة البقرة، الآية (٤٥).، فالضمير في "إنها" عائد عَلى الأقرب وهو الصَلاة ¬انظر: البحر المحيط لأبي حيان (۱/ ۲۹۹) بتصرف، وللتوسع في هذه القاعدة انظر: مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب (۱/ ٤٤)، والصفوة من القواعد الإعرابية (ص: ۱۰۰). هذا وقد تحدث الإمام السيوطي -رحمه الله- بشيء من الإسهاب في كتابه "معترك الأقران في إعجاز القرآن" على ضرورة الأهمية للمفسر في أن يتعلم تواعد الضمائر، انظر: المعترك (۳/ ٤٦۳ - ٤۷۰). كما ألف ابن الأنباري -رحمه الله- كتابًا خاصًا في الضمائر الواقعة في القرآن الكريم، أشار إليه السيوطي في المعترك (۳/ ٤٦۳).¥. ثالثًا: أن المعهود في قصص الأنبياء في القرآن الكريم أن أقوامهم هم الذين يفعلون معهم نحو ذلك، وأمثلة ذلك في القرآن كثيرة، قال تعالى حاكيًا عن قوم شعيب - عَلَيْهِ السَّلَام -: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ {مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ... } جزء من الآية (۸۸) من سورة الأعراف.، وقال في لوط - عَلَيْهِ السَّلَام -: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} سورة الشعراء، الآية (۱٦۷).، وقال في نوح - عَلَيْهِ السَّلَام -: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} سورة الشعراء، الآية (۱۱٦). إلى غير ذلك من الآيات. الدليل الرابع: أن من المستبعد كل الاستبعاد أن يجهز النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشًا كجيش العسرة بهذا العدد الهائل لأجل مقالة يقولها اليهود ويصدقهم لحيها، وقد أخبره الله تعالى بنوايا هؤلاء القوم وتدابيرهم نحو الإسلام، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ... } الآية سورة المائدة، الآية (۸۲).، وقالَ أيضًا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... } الآية سورة البقرة، الآية (۱۲۰).. ولقائل أن يقول هنا: ما سبب غزوة تبوك إذًا؟ والجواب: لئن كان بعض أهل السيرة حاول إيجاد سبب للغزوة إلا أن فوق هذا كله الامتثال للأمر بالجهاد ذكر ابن سعد في الطبقات أن هرقل جمع جموعًا من الروم وقبائل العرب الموالية لها، وأن المسلمين علموا بخبرهم فخرجوا إلى تبوك. انظر: طبقات ابن سعد (۲/ ۱٦٥)، وفي تاريخ اليعقوبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بحثًا لثأر جعفر بن أبي طالب - له - انظر: تاريخ اليعقوبي (۲/ ٦۷).، ولقد أحسن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وأفاد وأجاد حينما ذكر في تفسيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توجه إلى تبوك بناءً على الأمر الإلهي، فقال بعد إيراده رواية البيهقي السابقة: "وفي هذا الإسناد نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم – لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ... } سورة التوبة، الآية (۱۲۳).، ولقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} سورة التوبة، الآية (۲۹).، وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أَصحابه، وَالله أَعلم" تفسير ابن كثير (۳/ ٥۷).. وقال في "البداية والنهاية": "فعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} " (٥/ ۳).. نماذج من أقوال نقاد المفسرين في نقض دعوى أن قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} قد عني بها اليهود: تكلم كثير من المفسرين على عدم صحة من قال: إن الآية قد عني بها اليهود، وبما أن المقام هنا ليس مقام استقصاء أقوال هؤلاء فأذكر نبذًا من أقوالهم لتعطينا صورة واضحة كيف أن هذه الدعوى خالفت ما ذهب إليه محققو المفسرين. ۱ - قول الطبري: قال الطبري -رحمه الله- بعد أن استعرض قولي أهل التفسير في هذه الآية: "وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول قتادة ومجاهد، وذلك أن قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} في سياق خبر الله عز وجل عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر، فيوجه قوله: {وَإِنْ كَادُوا} إلى أنه خبر عنهم، فهو بأن يكون خبرًا عمن جرى له ذكر أولى من غيره" تفسير الطبري (۱٥/ ۱۳۳).. ۲ - قول البغوي: قال البغوي -رحمه الله-: "اختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم: هذه الآية مدنية، قال الكلبي: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة ... ، وقال مجاهد وقتادة: الأرض أرض مكة، والآية مكية، همَّ المشركون أن يخرجوه منها، فكفهم الله عنه حتَّى أمر بالهجرة فخرج بنفسه، وهذا أليق بالآية؛ لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة، والسورة مكية" معالم التنزيل (٥/ ۱۱۲ - ۱۱۳).. ۳ - قول ابن عطية: قال ابن عطية -رحمه الله- بعد أن ذكر ما حكاه النقاش من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بسبب مقالة اليهود، وأنَّه عسكر بذي الحليفة ¬ذو الحليفة: أصله اسم لمنزل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب النزول فيها تحت شجرة هي موضع المسجد الحالي ويعرف بمسجد الاحرام، وأبيار علي، ومسجد الميقات، وتبعد عن المدينة نحو ۸ كم. انظر: معجم البلدان (۲/ ۳۳۹ - ۳٤۰)، فصول من تاريخ المدينة المنورة، لعلى حافظ (ص: ۱٤۳ - ۱٤۳).¥ في طريقه إلى الشام: "وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة" المحرر الوجيز (۱۰/ ۳۳۰).. ٤ - قول الرازي: قال الرازي - رحمه الله - بعد أن ذكر القولين: "فالقول الأول - أي نزول الآية في قريش - اختيار الزجاج وهو الوجه؛ لأن السورة مكية" تفسير الرازي (۲۱/ ۲٤)، وانظر: معاني القرآن للزجاج (۳/ ۲٥٤).. ٥ - قول القرطبي: قال القرطبي -رحمه الله-: "وهذا - أي نزول الآية في قريش - أصح؛ لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر" تفسير القرطبي (۱۰/ ۳۰۱).. ٦ - قول ابن كثير: قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وقيل: نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة، وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية، وسكنى المدينة بعد ذلك" تفسير ابن كثير (۳/ ٥۷).. وقال أيضًا بعد أن أورد رواية البيهقي: "وفي هذا الإسناد نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}، ولقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه، والله أعلم" تفسير ابن كثير (۳/ ٥۷).. هذه الأقوال غيض من فيض من أقوال نقاد المفسرين الذين ضعفوا ما ذهب إليه بعض ضعفاء المفسرين، ولعل هذا القدر من الأقوال فيه كفاية، إذ الغرض كما ذكرت ليس استقصاء تلك الأقوال، وإنما هو معرفة مدى صحة ذلك القول - أعني نزول الآية في اليهود - وعدم صحته. وخلاصة القول: أن رواية البيهقي الدالة على نزول هذه الآيات بالمدينة تحمل عوامل ضعفها وفسادها بين طياتها، ولا أدل على ذلك من أن البيهقي الذي روى هذه الرواية بوب لها تبويبًا يوحي بضعفها عنده حيث قال: "باب ما روي في سبب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك وسبب رجوعه إن صح الخبر فيه". والخبر لم يصح بل هو مرسل ضعيف الإسناد كما قال الإمام السيوطي -رحمه الله- انظر: لباب النقول (ص: ۱۳۹).. في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (۸۰)} سورة الإسراء، الآية (۸۰). لم أعثر على أحد من أهل العلم يرى مدنية هذه الآية غير القائلين بمدنية الآيات الأربع الآنفة الذكر قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (۷٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (۷۷) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (۷۸) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} سوِرة الإسراء، الآيات (۷٦ - ۷۹).. وقد أفردت لها حديثًا خاصًا - كما أسلفت قبل قليل - وذلك لمباحثها العديدة وإن كانت جلّ هذه المباحث تدور حول اختلافهم في تفسير المدخل الصدق والمخرج الصدق في الآية الكريمة. مستند القول بمدينة هذه الآية: يستند هذا القول إضافة إلى رواية البيهقي ما أخرجه البيهقي -رحمه الله- في "دلائل النبوة" من طريق محمد بن يعقوب عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم: "أن اليهود أتوا رسول الله يومًا فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا أنك نبي فالحق بالشام؛ فإن الشام أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فصدق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عز وجل آيات من سورة بي إسرائيل بعد ما ختمت السورة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} إلى قوله: {تَحْوِيلًا} فأمره الله عزَ وجل بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتكَ ومنها تبعث، ثم قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {مَقَامًا مَحْمُودًا} فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره جبرَيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فقال: سل ربك عز وجلَّ فإن لكل نبي مسألة، وكان جبريل له ناصحًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مطيعًا، فقال: "ما تأمرني أن أسأل" فقال: قل رب أدخلي مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا، فهؤلاء الآيات نزلن عليه في رجعته من تبوك" دلائل النبوة (٥/ ۲٥٤ - ۲٥٥). بما أخرجه الطبري في تفسيره حيث قال: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك قال: في قوله: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يعني مكة دخل فيها آمنًا، وَخرج منها آمنًا تفسير الطبري (۱٥/ ۱٥۰)، وإسناده منقطع.. وقال ابن عاشور -رحمه الله- مشيرًا إلى هذا المستند: "ومنهم من فسَّر المدخل والمخرج بأن المخرج الإخراج إلى فتح مكة، والمدخل الإدخال إلى بلد مكة فاتحًا، وجعل الآية نازلة قبيل الفتح، فبنى عليه أنها مدنية" التحرير والتنوير (۱٥/ ۱۸٦).. ولعل من الأنسب قبل أن نبدأ مناقشة هذا المستند أن نورد الأقوال التي قيل في تفسير المدخل والمخرج المذكورين في الآية الكريمة، لنرى ما موقع التفسير الذي تستند إليه دعوى مدنية هذه الآية من بين تلك التفاسير التي ذكرت للآية؟ أقوال أهل العلم في المراد بالمدخل والمخرج في الآية الكريمة: القول الأول: أن المراد بمدخل الصدق هو مدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومخرج الصدق مخرجه من مكة، وهذا القول هو قول جمهور المفسرين انظر: تفسير الطبري (۱٥/ ۱٥۰)، معالم التنزيل (٥/ ۱۲۲)، تفسير ابن كثير (۳/ ٦۲).. ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية" ¬المسند (۱/ ۲۲۳) برقم (۱۹٤۸) طبعة شاكر، وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. والأثر أخرجه حفص الدوري في قراءات النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: ۱۲۰) برقم (۷٤)، والترمذي في سننه. انظر: سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۸/ ٤٥٦) برقم (۳۳٤۸) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والطبري في التفسير (۱٥/ ۱٤۸ - ۱٤۹)، والطبراني في المعجم الكبير (۱۲/ ۱۰۹) برقم (۱۲٦۱۸)، والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي. انظر: المستدرك مع التلخيص (۳/ ۳)، والبيهقي في الدلائل (۲/ ٥۱٦ - ٥۱۷) كلهم من طريق قابوس به، وضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني في ضعيف سنن الترمذي من أجل قابوس بن أبي ظبيان، انظر: ضعيف سنن الترمذي (ص: ۳۹) برقم (٦۱۱). وقد قال عنه الحافظ في التقريب (۲/ ۱۱٥): "فيه لين". قل: وجدته قد وثقه يحيى بن معين، ويعقوب الفسوي. انظر: يحيى بن معين وكتابه التاريخ (۳/ ۲۷٤) برقم (۰۱۳۰۸)، والمعرفة والتاريخ للفسوي (۳/ ۱٤٥)، وقد سبق آنفا أن صحح هذا الحديث الترمذي والحاكم والعلامة أحمد شاكر.¥. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في هذا القول: "وهذا القول هو أشهر الأقوال" تفسير ابن كثير (۳/ ٦۲).. القول الثاني: وقيل: إن المعنى: أمتني إماتة صدق، وأخرجني بعد الممات من قبري يوم القيامة مخرج صدق، أخرجه الطبري من طريق عطية العوفي عن ابن عباس انظر: تفسير الطبري (۱٥/ ۱٤۹).. القول الثالث: وقيل: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني منه مخرج صدق، أخرجه الطبري عن مجاهد انظر:تفسير الطبري (۱٥/ ۱٤۹).. القول الرابع: وروى الطبري عن الحسن أنه قال: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الجنة {مُخْرَجَ صِدْقٍ} من مكة إلى المدينة تفسير الطبري (۱٥/ ۱٥۰) وإسناده حسن.. القول الخامس: وهو القول الذي استندت إليه دعوى مدنية هذه الآية، وفحواه أن المراد بالمدخل الإدخال إلى مكة فاتحًا، والمخرج الإخراج إلى فتح مكة تفسير الطبري (۱٥/ ۱٥۰) بتصرف.. وهكذا نرى - ولم ندخل بعد تفاصيل مناقشة دعوى مدنية هذه الآية - أن التفسير الذي هو عمدة هذه الدعوى أصبح - مع ضعفه - ساقة الأقوال من بين الأقوال التي فسرت بالمدخل الصدق والمخرج الصدق في الآية ذكرت ترتيب هذه الأقوال حسبما أورده الطبري في تفسيره.. مناقشة دعوى مدنية هذه الآية: لقد تبين من خلال عرض الأقوال التي قيلت في تفسير المدخل والمخرج في الآية ضعف هذا المستند، ولكن أودّ هنا الإشارة إلى أن حديث ابن عباس السابق ¬ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية" المسند (۱/ ۲۲۳) برقم (۱۹٤۸) طبعة شاكر، وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. والأثر أخرجه حفص الدوري في قراءات النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: ۱۲۰) برقم (۷٤)، والترمذي في سننه. انظر: سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۸/ ٤٥٦) برقم (۳۳٤۸) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والطبري في التفسير (۱٥/ ۱٤۸ - ۱٤۹)، والطبراني في المعجم الكبير (۱۲/ ۱۰۹) برقم (۱۲٦۱۸)، والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي. انظر: المستدرك مع التلخيص (۳/ ۳)، والبيهقي في الدلائل (۲/ ٥۱٦ - ٥۱۷) كلهم من طريق قابوس به، وضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني في ضعيف سنن الترمذي من أجل قابوس بن أبي ظبيان، انظر: ضعيف سنن الترمذي (ص: ۳۹) برقم (٦۱۱). وقد قال عنه الحافظ في التقريب (۲/ ۱۱٥): "فيه لين". قل: وجدته قد وثقه يحيى بن معين، ويعقوب الفسوي. انظر: يحيى بن معين وكتابه التاريخ (۳/ ۲۷٤) برقم (۰۱۳۰۸)، والمعرفة والتاريخ للفسوي (۳/ ۱٤٥)، وقد سبق آنفا أن صحح هذا الحديث الترمذي والحاكم والعلامة أحمد شاكر.¥ فيه دلالة واضحة على أن الآية نزلت قبيل الهجرة، بل سياق الآية يدلُّ على أنه لم يدخل المدينة بعد، ولهذا قال السيوطي -رحمه الله- بعد أن أورد حديث ابن عباس السابق من طريق الترمذي قال: "هذا صريح في أن الآية مكية، وأخرجه ابن مردويه بلفظ أصرح منه" لباب النقول (ص: ۱۳۹).. ويبدو - والله أعلم - أن هذه الآية ضمن سلسلة التوجيهات الربانية لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بدءً من قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} سورة الإسراء، الآية (۷۳). الآية إلى قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} سورة الإسراء، الآية (۸۱).. وقد بنى الطبري -رحمه الله- اختياره في تفسير المدخل بأنه المدينة والمخرج بأنه مكة - بنى ذلك - على السياق، فقال بعد أن استعرض الأقوال في ذلك: "وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معنى ذلك: وأدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق، وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن ذلك عقيب قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} وقد دللنا فيما مضى على أنه عني بذلك أهل مكة، فإذا كان ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجوه عن مكة، كان بينًا، إذ كان الله قد أخرجه منها: أن قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ... } الآية، أمر منه له بالرغبة إليه في أن يخرجه من البلدة التي همَّ المشركون بإخراجه منها مخرج صدق، وأن يدخله البلدة التي نقله الله إليها مدخل صدق" تفسير الطبري (۱٥/ ۱٥۰).. وقال العلامة القاسمي -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية والآية التي بعدها: "سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} يدلُّ على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة، ومبارحة مكَة، وأنَّه تعالى أمر نبيه بأن يبتهل إليه في تيسير إدخاله لمهاجره على ما يرضيه، وإخراجه من بلده كذلك" محاسن التأويل (۱۰/ ۲۷٦).. وقد يتساءل متسائل فيقول: ألا يدلُّ قول ابن عباس: "ثم أمر بالهجرة فأنزل الله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} " أن نزول الآية كان عقب أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة؟ والجواب على هذا السؤال هو أن الفاء هنا ليست للتعقيب وإنما هي للسببية، وكما هو مقرر في القواعد النحوية أن فاء السببية لا تستلزم التعقيب، ألا ترى المهلة البعيدة في قوله: "إن يسلم فهو يدخل الجنة"، وعلى فرض أن الفاء هنا للتعقيب فإن تعقيب كل شيء بحسبه، ألا ترى أنه يقال: "تزوج فلان فولد له"، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} مغني اللبيب (۱/ ۱٦۱ - ۱٦۲) بتصرف، والآية من سورة الحج، الآية (٦۳).. ولعل سائلا آخر يسأل كذلك فيقول: ما نكتة تقديم إدخال المدينة مع أن المعلوم أن ذلك كان بعد إخراجه من مكة؟ والجواب على هذا ذكره أبو السعود في تفسيره فقال: "وتغيير ترتيب الوجود لكون الإدخال هو المقصد" إرشاد العقل السليم (٥/ ۱۹۰).. وبنحو هذا قال صديق حسن خان في الجواب على هذا السؤال ونصه: "ومن المعلوم أن إدخاله المدينة بعد إخراجه من مكة، وإنما قدمه عليه اهتمامًا بشأنه ولأنه هو المقصود" فتح البيان (٥/ ۲۹٦).. وخلاصة القول: أن هذه الآية وغيرها من الآيات التي سبقتها انتقد دعاوي مدنيتهن غير واحد من أهل العلم، وقد سبق أن ذكرت طرفًا من تلك الأقوال، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بعد أن ذكر هذه الآية وغيرها من آيات هذه السورة اللاتي قيل إنهن مستثناة من السورة: "قيل في جميع ذلك إنه مدني، ولا يثبت شيء من ذلك، والجمهور على أن الجميع مكيات وشذّ من قال خلاف ذلك" الفتح (۸/ ۲۸۹).. وقال ابن عاشور -رحمه الله- بعد ما ذكر مستند دعوى مدنية هذه الآية: "وهو مدخول من جهات، وقد تقدم أن السورة كلها مكية على الصحيح" التحرير والتنوير (۱٥/ ۱۸٦).. في قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} سورة الإسراء، الآية (۸۱).. لم أجد من عزي إلى القول بمدنية هذه الآية، وقد أورده السيوطي - رحمه الله - في "الإتقان" جاعلًا ختام سلسلة الآيات المتتابعة من قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} انظر: الإتقان (۱/ ٤٦). وهكذا تكون هذه الآية كذلك ضمن الآيات التي قيل إنهن مستثناة من السورة حسب إيراد السيوطي لها. مستند القول بمدنية هذه الآية: لقد بحثت كثيرًا عن دليل يستند به القول بمدنية هذه الآية، فلم يظهر لي دليل يمكن أن يكون مستندًا لهذا القول، ولعل قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية يوم فتح مكة جعل البعض يظن أن هذه الآية نزلت في ذاك الوقت، ومن ثم يظن أنها مدنية أيضًا. ويلاحظ في هذا ما قاله ابن عطية -رحمه الله- في تفسيره حيث يقول: "وهذه الآية نزلت بمكة، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما في السير لابن هشام وفي غيرها" المحرر الوجيز (۱۰/ ۳۳۷ - ۳۳۸)، وانظر: سيرة ابن هشام (٤/ ۱۲٥۹).. هذا وإن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية يوم فتح مكة أمر وارد في الصحيح ففي البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "دخل النبِي - صلى الله عليه وسلم - مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۲٥۲) برقم (٤۷۲۰)، كتاب التفسير، باب: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، وأخرجه أيضًا في المظالم برقم (۲٤۷۸)، وفي المغازي برقم (٤۲۸۷)، ومسلم في صحيحه (۳/ ٤۰۸) برقم (۱۷۸۱) كتاب الجهاد، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة. ". وهكذا تدل دلالة هذا الحديث على أن تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية يوم الفتح كانت تلاوة استشهاد للآية ولم تكن تلاوة نزول. وذكر العلامة القاسمي -رحمه الله- في تفسيره أن هذه الآية والآيات التي قبلها نزلن قبيل الهجرة إلى المدينة فيقول: "سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} يدلُّ على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة ومبارحة مكة" محاسن التأويل (۱۰/ ۲۷٦).. وخلاصة القول: أن هذه الآية مكية، وتلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- للآية يوم الفتح كانت تلاوة استشهاد وليست تلاوة نزول، بدليل ما في الصحيحين، كما أن الآية ضمن سلسلة التوجيهات الربانية لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك التوجيه ربَّى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أعظم تربية، وسلَّحه بخير سلاح في مواجهة قوى الباطل حتى يستعلي عليه ويقهره، والله أعلم. في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} سورة الإسراء، الآية (۸۸).. لم أجد أحدًا عزي إليه القَول بمدينة هذه الآية، وقد أورده السيوطي -رحمه الله- في "الإتقان" ضمن الآيات اللاتي قيل إنهن مستثناة من السورة انظر: الإتقان (۱/ ٤٦).. مستند القول بمدنية هذه الآية: يستند القول بمدنية هذه الآية إلى ما أخرجه الطبري -رحمه الله- في تفسيره حيث قال: حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن أبى محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثنا سعيد بن حبير أو عكرمة عن ابن عباس، قال: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمود بن سيحان وعمر بن أضا عند ابن إسحاق في السيرة "نعمان بن أضا". انظر: سيرة ابن هشام (۲/ ٦۰٦). وبحرى بن عمرو، وعزيز بن أبي عزيز، وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حق من عند الله عز وجل، فإنا لا نراه متناسقًا كما تناسق التوراة، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله تجدونه مكتوبًا عندكم، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به، فقال عند ذلك، وهم جميعًا: فنحاص، وعبد الله بن صوريا، وكنانة بن أبى الحقيق، وأشيع، وكعب بن أسد، وسموءل بن زيد، وجبل بن عمرو: يا محمد، ما يعلمك هذا إنس ولا جان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، فقالوا: يا محمد إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابًا نقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله عز وجل فيهم وفيما قالوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} تفسير الطبري (۱٥/ ۱٥۸ - ۱٥۹).. مناقشة هذا المستند: ولئن كان بعض أهل العلم حسَّن إسناد هذه الرواية ¬تفسير ابن كثير (۲/ ٥۷۹)، وقد حسَّن هذا الإسناد جمع من أهل العلم، رغم جهالة محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، كما قال الحافظ في التقريب (۲/ ۲۰٥)، حسنه الحافظ ابن حجر نفسه في مواضع في الفتح. انظر: (۷/ ۳۸٦) عند حديثه في سبب نزول قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}، وانظر أيضًا: (۸/ ۷۹) عنَد حديثه في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. وذكر في مقدمة العجاب في بيان الأسباب أن هذا الإسناد ضمن أسانيد الثقات عن ابن عباس. انظر: العجاب (٤ ق / ب). واعتمد على هذا الإسناد كذلك الهيثمي. انظر: المجمع (۱۷۱۲) وقارن مع الطبراني في المعجم الكبير (۱۲/ ٦۸) برقم (۱۲٤۹۸). وحسنه السيوطي في الإتقان فقال: "وهي طريق حيدة وإسنادها حسن، وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرًا، وفي معجم الطبراني الكبير منها أشياء". الإتقان (۲/ ۱۲۳۲). هذا وقد ذكر شيخنا الدكتور حكمت بشير في مقدمة كتابه "موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور" أربع قرائن تؤيد تحسين هذا الطريق، وإليك ذكرها بإيجاز: أولًا: أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ذكر هذا الإسناد ضمن أسانيد الثقات عن ابن عباس في مقدمة كتابه "العجاب في بيان الأسباب". ثانيًا: أن أبا داود روى لمحمد بن أبى محمد وسكت عنه، فرواية أبى داود له وسكوته عنه تؤيد حكم الحافظ ابن حجر أن إسناده حسن. ثالثًا: أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أورد هذا الطريق وغيره عند تفسير لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وفي النهاية قال: "وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس" علمًا بأن ابن كثير صدَّر الأسانيد بطريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت. رابعًا: أن الطبراني روى من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت. قال الهيثمي في الحكم على هذا الطريق: "رجاله موثقون". انظر: مجلة الجامعة الإسلامية العدد (۱۰۱ - ۱۰۲) السنة (۲٦) (ص: ٤٦ - ٤۸) بتصرف. مزيدًا من التفصيل في كلام أهل العلم حول جهالة محمد بن أبي محمد، وسكوت بعضهم عنه، كما وثقه آخرون. انظر ما كتبه الدكتور حكمت بشير في مقدمة كتابه المذكور، فقد استوفى فضيلته بحثًا في ذلك. .¥ فإن نقاد المفسرين لم يسلِّموا اعتماد متنها كسبب للآية، فها هو الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول بعد أن أورد هذه الرواية في تفسيره باختصار: "وفي هذا نظر؛ لأن هذه السورة مكية، وسياقها كله مع قريش، واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة" تفسير ابن كثير (۳/ ٦٦).. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مشيرًا إلى مكية هذه الآية: "والقرآن نفسه هو قول الله، وفيه شهادة الله بما أخبر به الرسول، وإنزاله على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإتيان محمد به هو آية وبرهان، وذلك من فعل الله، إذ كان البشر لا يقدرون على مثله، ولا يقدر عليه من الأنبياء ولا الأولياء، ولا السحرة، ولا غيرهم، كما قال تعالى: {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أخبر بهذا في أول أمره إذ كانت هذه الآية في سورة "سبحان" وهي مكية، صدرها بذكر الإسراء الذي كان بمكة باتفاق الناس" الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (٤/ ٦٥).. ويبدو - والله أعلم - أن هذه الرواية من قبيل ما قد مرَّ معنا مرارًا وهو أن السلف قد يريدون بقولهم: "نزلت الآية في كذا" أن لفظ الآية مما يشمل ذلك، لا أنه هو سبب النزول الحقيقي. ومما يدلُّ على أن هذه الآية مكية ورودها في أول سلسلة تحدي الله عز وجل لكفار قريش إذ التحدي بالقرآن قد مرَّ، بمراحل متعددة، وهى كالآتي: المرحلة الأولى: تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا وما استطاعوا، قال تعالى في سورة الإسراء المكية: {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}. المرحلة الثانية: ثم تحداهم بعشر سور مثله فما قدروا، قال تعالى في سورة هود المكية: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} سورة هود، الآية (۱۳).. المرحلة الثالثة: ثم تحداهم مرة ثالثة بأن يأتوا بسورة منه، فما رفعوا بذلك رأسًا، قال تعالى في سورة يونس المكية: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} سورة يونس، الآية (۳۸).. وكرر التحدي بسورة ما في سورة البقرة المدنية فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} سورة البقرة، الآية (۲۳).، فألقموا حجَرًا، وبذلك ثبت إعجاز القرآن علىَ أبلغ وجه واحمده، وإذا ثبت عجز العرب فغيرهم بالعجز أحرى وأولى المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة (ص: ۷ - ۸) بتصرف.. وعودًا على موضوع مكية هذه الآية أقول: إن مقتضى التحدي بالقرآن كله هو أن يكون نزوله قبل التحدي بعشر سور وبسورة واحدة. وهكذا تكون آية الإسراء أسبق نزولًا من آية هود ومن آية يونس المكيتين، وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لآية يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: "وهذا هو المقَام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهَم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده، وليستعينوا بمن شاءوا، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك لي لا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ثم تَقاصر معهم إلَى عشر سور منه، فقالَ في أول سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، ثم تنَازلَ إلى سورة فقال في هذه السورة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وهكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدًا فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} الآية، هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به" تفسير ابن كثير (۲/ ٤۳۳).. وهنا سؤال يتبادر إلى الأذهان وهو ألسنا قد ذكرنا سابقًا أن سورة يونس أسبق نزولًا من سورة هود، فكيف إذًا تكون آية هود أسبق من آية يونس؟ لنترك الجواب على هذا السؤال للدكتور محمد محمد أبي شهبة حيث يقوله: "ومن العلماء من يجعل آية يونس متقدمة على آية هود لتقدم نزول سورة يونس على نزول سورة هود، فيجعل التحدي لسورة قبل التحدي بعشر سور، والجواب أنه على فرض تسليم ذلك فلا يمنع من تأخر آية في سورة متقدمة على نزول آية في سورة متأخرة" المدخل (ص: ۷).. وهكذا نرى أنه ليس المعنى حينما نقول: إن سورة كذا نزلت بعد سورة كذا أن التالية نزلت بعد انتهاء الأولى، قال ابن عاشور -رحمه الله-: "فليس معنى قولهم: نزلت سورة كذا بعد سورة كذا مرادًا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى، أنها ابتدئ نزولها بعد انتهاء نزول الأخرى، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها" التحرير والتنوير (۳/ ۱٤٤).. وقال في موضع آخر -رحمه الله-: "إن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية نزلت بعد انقضاء نزول التي قبلها، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل" التحرير والتنوير (۹/ ۲٤٦).. وقال أيضًا: "قد يستمر نزول السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى" التحرير والتنوير (۱/ ۲۰۲).. وخلاصة القول: أن هذه الآية مكية، وهى أول آية تحدى الله عز وجل بها كفار قريش في الإتيان بمثل هذا القرآن: "وما زالت عجلة الزمن تدور وتطوى القرون قرنًا فقرنًا، ومسافة العجز تطول وتتسع وتتشعب ... حتَّى يظهر نجم إعجاز جديد معلنًا أن التحدي في القرآن ليس لعصر دون عصر، ولا لأمة دون أمة، ولا يزال هذا دأب القرآن في التحدي حتَّى يرث الله الأرض ومن عليها" خصائص القرآن الكريم للدكتور فهد الرومي (ص: ۹٥).. في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} سورة الإسراء، الآية (۱۰۱).. أورد الحافظ ابن حجر- رحمة الله- هذه الآية ضمن الآيات اللاتي قيل إنهن مستثناة من سورة الإسراء راجع: الفتح (۸/ ۲۸۹).. مستند القول بمدنية هذه الآية: يستند هذا القول على دليلين وهما كالتالي: الدليل الأول: ما تدل عليه بعض الروايات من أن اليهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن هذه الآية، وإليك نص الرواية الدالة على ذلك: أخرج أبو داود الطيالسي ¬هو سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري الشهير بأبي داود الطيالسي، توفي -رحمه الله- سنة (۲۰٤ هـ). ترجمته: الكنى والأسماء للإمام مسلم (۱/ ۳۰۲) برقم (۱۰۷۰)، سير أعلام النبلاء (۹/ ۳۷۸ - ۳۸٤).¥ - رحمه الله- في مسنده من طريق شعبة قال: أخبرني عمرو بن مرة سمع عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان المرادي أن رجلين من أهل الكتاب قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال: لا يسمعن هذا فيصير له أربعة أعين، فأتياه فسألاه عن تسع آيات بينات في رواية الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في التفسير والطبري في تفسيره، والطبراني في المعجم الكبير، وأبى نعيم في الحلية، والضياء المقدسِي في المختارة: "فسألاه عن قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}،، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشركوا با للّه شيئاً، ولا تقتلوا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان لتقتلوه أو لتهلكوه، وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت"، فقبَّلا يديه ورجليه، وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: "فما يمنعكما من اتباعي؟ "، فقالا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخشى إن تبعناك أن يقتلنا اليهود ¬مسند أبي داود الطيالسي (ص: ۱٦۰) برقم (۱۱٦٤). والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (٤/ ۳۲۸) برقم (۱۸۰٥۳)، طبعة المكتب الإسلامي المرقمة، والترمذي في كتاب الاستئذان، باب ما جاء في قبلة اليد والرجل، سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۷/ ٤۳٥ - ٤۳۸) برقم (۲۸۷۷)، وقال: "وهذا حديث حسن صحيح"، وفي التفسير أيضًا سورة بني إسرائيل برقم (۳۳٥۳) التحفة، وابن ماجه في سننه (۲/ ۱۲۲۱) برقم (۳۷۰٥) كتاب الأدب، باب الرجل يقبل يد الرجل، والنسائي في سننه (۷/ ۱۲۷) برقم (٤۰۸۹) كتاب تحريم الدم، باب السحر، والطبري في التفسير (۱٥/ ۱۷۲)، والطبراني في المعجم الكبير (۸/ ٦۹ - ۷۰) برقم (۷۳۹٦)، والحاكم في المستدرك (۱/ ۹)، وقال: "هذا حديث صحيح لا نعرف له علة بوجه من الوجوه و لم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وأبو نعيم في الحلية (٥/ ۹۷ - ۹۸) في ترجمة عمرو بن مرة، والبيهقي في الدلائل (٦/ ۲٦۸)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (۲۷/ ۸ - ۲۸) برقم (۱۸)، وصحح المحقق إسناده. وضعفه الشيخ الألباني في مواضع عديدة من كتبه من أجل عبد الله بن سَلِمة، ففد قال الحافظ ابن حجر عنه في التقريب (۱/ ٤۲۰): "صدوق تغير حفظه". انظر تضعيف الشيخ الألباني للحديث في: ضعيف سنن الترمذي (ص: ۳۲٦ - ۳۲۷) برقم (٥۱۷)، وضعيف سنن ابن ماجه (ص: ۸۸ - ۸۹) برقم (۸۰۸)، وضعيف سنن النَّسَائِيّ (ص: ۱٦۲ - ۱٦۳) برقم (۷٥).¥. الدليل الثاني: أن توجيه الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ} لدليل على مدنية الآية، ووجه ذلك أن المسئولين هم مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه راجع: فتح القدير (۳/ ۲٦۳).، وهذا يقتضى أن تكون الآية مدنية. مناقشة أدلة القائلين بمدينة الآية: مناقشة دليلهم الأول: وبغض النظر عن اختلاف أهل العلم في إسناد هذه الرواية فإن بعض النقاد انتقد متنها، إذ لا توجد أي علاقة بين إقامة البراهين على فرعون وبين الجواب المذكور في الحديث، وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وليس المراد منها -أي التسع الآيات- كما ورد في هذا الحديث، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون وما جاءهم من هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة، فإن له بعض ما ينكر، والله أعلم ولعل ذينك اليهوديين إنما سألاه عن العشر الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات فحصل وهم في ذلك، والله أعلم" تفسير ابن كثير (۳/ ۷۱).. وقال أيضاً بعد إيراده للحديث من طريق الإمام أحمد ما نصه: "فهذا حديث رواه هكذا الترمذي والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم" تفسير ابن كثير (۳/ ۷۱).. ولعل سائلاً يسأل إذاً ما هي الآيات التسع المعنية في الآية الكريمة؟ يجيبنا على هذا السؤال الحافظ ابن كثير نفسه حيث يقول: "يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهى الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهى العصا، واليد، و السنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، قاله ابن عباس" تفسير ابن كثير (۳/ ۷۰).. وروي عن ابن عباس أيضاً جعل النقص من الثمرات من هذه الآيات التسع ولم يذكر في هذه الرواية معجزة البحر انظر: تفسير ابن كثير (۳/ ۷۰).، وهو قول مروي عن مجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة انظر: معاني القرآن للنحاس (٤/ ۲۰۰)، وتفسير ابن كثير (۳/ ۷۰).. وقال الحافظ ابن كثير في هذا القول: "وهذا القول ظاهر جلي حسن قوّي" تفسر ابن كثير (۳/ ۷۰).. هذا وقد استدل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن هذه الآيات التسع هي تلك الدلائل والمعجزات التي ذكرها ابن عباس -رضى الله عنهما- استدل على ذلك بما يأتي: أولاً: قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} سورة النمل، الآية (۱۲).. وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير: "فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هى المرادة ها هنا وهي المعنية في قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ} إلى قوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} " تفسير ابن كثير (۳/ ۷۰ - ۷۱).. ثانيا: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية سورة النمل، الآية (۱۳).. قال الحافظ ابن كثير بعد أن استشهد بهذه الآية: "فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين، ونقص من الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم إلى فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه، وخوارق ودلائل على صدق موسى، ووجود الفاعل المختار الذي أرسله" تفسير ابن كثير (۳/ ۷۱).. وممن أعلَّ متن هذه الرواية الحافظ الزيلعي ¬هو جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي، ألف نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، وتخريج أحاديث الكشاف، توفي -رحمه الله- سنة (۷٦۲ هـ). ترجمته: الدرر الكامنة (۲/ ٤۱۷)، النحوم الزاهرة لابن تغري بردي (۱۱/ ۱۰). وزيلع قرية على ساحل البحر من ناحية الحبش فيها طوائف منهم ومن غيرهم. انظر: معجم البلدان (۳/ ۱۸٥). قلت: وهي الآن تقع في شمال الصومال، ومعروفة بذلك الاسم عندنا.¥ في تخريجه لأحاديث الكشاف، فذكر إشكالين يقدح كل منهما في الرواية، فيقول: "والحديث فيه إشكالان: أحدهما: أنهم سألوه عن تسعة وأجاب في الحديث بعشرة، وهذا لا يرد على رواية أبيٍ نعيم، والطبراني لأنهما لم يذكرا فيها السحر، ولا على رواية أحمد أيضاً لأنَّه لم يذكر القذف مرة، وشك في أخرى" تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف (۲/ ۲۹۳).. ثانيهما: ويتلخص فيما ذكره الحافظ ابن كثير من عدم وجود أي مناسبة بين تلك الأحكام المذكورة في الحديث وبين إقامة البراهين على فرعون تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف (۲/ ۲۹۳)، وقارن معه تفسير ابن كثير (۳/ ۷۱).. ولعل قول أبي عبد الله الحاكم في هذا الحديث: "لا نعرف له علة بوجه من الوجوه" المستدرك (۱/ ۹). يجعلنا كذلك نستشف بأن هذا الحديث معلول ولو بشيء من العلة، فأبو عبد الله الحاكم -رحمه الله- قد عرف بالتساهل في تصحيح الأحاديث، وقوله هذا يوحي بوجود علة في الحديث، إلا أنه حاول نفي ذلك ليندرج الحديث ضمن القاعدة التي وضع لها في الأحاديث المخرجة في كتابه "المستدرك"، ولكن الغرابة هنا موافقة الإمام الذهبي له. وعلى فرض صحة تفسير الآيات التسع بالأحكام المذكورة في الحديث فإنه ليس في الرواية ما يدل على أن الآية نزلت عند سؤال ذينك اليهوديين، بل سياق الرواية يدل على أن نزولها كان قبل ذلك. ومما يؤكد مكية هذه الآية أن بعدها مباشرة آيات تتصل بمعناها اتصالاً يقضي بأنها نزلت معها، وهي قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} إلى قوله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} الآية سورة الإسراء، الآيات (۱۰۲ - ۱۰٤).. قال الحافظ ابن كثير عند تَفسيره لهذه الآيات: "وفي هذا بشارة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة" تفسير ابن كثير (۳/ ۷۱).. مناقشة الدليل الثاني: إن جعل الخطاب في قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس محل اتفاق بين المفسرين، بل جمهور المفسرين كما ذَكره الآلوسي يرون أن الخطاب لموسى عليه السلام انظر: روح المعانى (۱٥/ ۱۸٤).، ويؤيده قراءة ابن عباس: "فسأل" على صيغة الماضي انظر: مختصر في شواذ القراءات لابن خالويه (ص: ۷۷).. ولو سلمنا للقائلين بمدنية الآية أن يكون معنى الآية كما ذكروه فإن هذا لا يستلزم أن تكون الآية مدنية، إذ مر معنا نحو هذا السياق في آيات مكية، كقوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآية سورة الأعراف، الآية (۱٦۳).، وقولى تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} الآية سورة يونس، الآية (۹٤).. قال الشيخ محمد رشيد رضا- رحمه الله- عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} الآية مبيناً أن مثل هذا السياق وارد في السور والآيات المكية قال: "إن هذا المعنى نزل في سور مكية أخرى كقوله تعالى في سورة الإسراء: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ}، وقوله في سورتي النحل والأنبياء: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} " تفسير المنار (۱۱/ ۱٤۱ - ۱٤۲).. وللشيخ ابن عاشور -رحمه الله- كلام نفيس في مثل هذا المقام حيث ينتقد فيه من بجعل كل آيات الحوار مع أهل الكتاب آيات مدنية، فيقول: "وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظنّ أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئ" التحرير والتنوير (۱۱/ ۷۸).. والخلاصة: أن دعوى مدنية هذه الآية واهية، إذ لم يقم عليها دليل مقنع صحيح، وقد وصف الحافظ ابن حجر -رحمه الله- من قال بمدنيتها بالشذوذ حيث قال معقباً على دعاوي مدنية بعض آيات هذه السورة ومنها هذه الآية: "قيل في جميع ذلك إنه مدني، ولا يثبت شيء من ذلك، والجمهور على أن الجميع مكيات، وشذ من قال خلاف ذلك" الفتح (۸/ ۲۸۹).. في قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} إلى قوله: {يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} سورة الإسراء، الآيات (۱۰۷ - ۱۰۹).. هذه الآيات الثلاث انفرد بالقول بمدنيتهن مقاتل بن سليمان -رحمه الله- ينظر: تفسير مقاتل (۲/ ٥۱۲).، وذكر السخاوي أنهن من زيادات مقاتل من غيره في دعاوي الآيات المستثناة من هذه السورة ينظر: جمال القرآء (۱/ ۱۳).. مستند القول بمدينة هذه الآية: يستند هذا القول إلى ما روي من أن هذه الآيات قد عني بها أناس من اليهود، وقد روي ذلك عن مجاهد، ففي الطبري من طريق حجاج عن ابن جريج قال: قال مجاهد: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} إلى قوله: {خُشُوعًا} هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل الله على محمد قال: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} تفسير الطبري (۱٥/ ۱۸۱)، وهو إسناد ضعيف؛ ففيه الحسين بن داود المصيصي سنيد وهو ضعيف. انظر: التقريب (۱/ ۳۳٥)، وفيه ابن جريج مدلس من الثالثة وقد عنعن. انظر: التقريب (۱/ ٥۲۰)، وطبقات المدلسين لابن حجر (ص ۹٥).. مناقشة هذا المستند: وعلاوة على ضعف الرواية التي استند إليها القول بمدنية هذه الآيات فإن مجرد الحديث عن أهل الكتاب لا يقتضى مدنية الآيات. كما لا مانع أن يكون المراد بهذا الإخبار عما سيقع في المستقبل، ويكون ذلك قد حدث من اليهود بعد الهجرة إلى المدينة، وقد يحصل هذا في الأخبار التي تتعلق بأهل الكتاب والتي ذكرت في السور المكية. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- معلقاً على ما جاء في البخاري من أن قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} جزء من الآية (۱٥) من سورة الأحقاف. نزل في عبد الله بن سلام مع أن سورة الأحقاف مكية قال: "ولا مانع أن تكون جميعها مكية، وتقع الإشارة فيها إلى ما سيقع بعد الهجرة من شهادة عبد الله بن سلام" الفتح (۷/ ۱٦۲).. وقال العلامة الآلوسي -رحمه الله- مجيباً عما ذكره بعض المفسرين من نزول قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} في عبد الله بن سلام، قال: "وأجيب بأن ذلك لا ينافي كون الآية مكية، بأن يكون الكلام إخباراً عما سيشهد به" روح المعاني (۱۳/ ۱۷٥ - ۱۷٦).. وخلاصة القول: أن هذه الآيات كغيرهن من الآيات المكية إلى تحديث عن أهل الكتاب فهناك آيات مكية عديدة حكت تصديق أهل الكتاب لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصدق هذا القرآن. الآيات المكية التي تكرر نزولها في المدينة في سورة الإسراء قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} سورة الإسراء الآية (۸٥).. اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي مكية تبعا للسورة؟ هذا هو قول جمهور المفسرين انظر: زاد المسير (۳۱٥)، لباب التأويل في معانى التنزيل (تفسير الخازن) (۱۲۷۱٤)، مصاعد النظر (۲/ ۲۲۸)، روح المعانى (۲/ ۱٥). أم أنها مدنية؟ هذا القول هو اختيار السيوطي، وكثير ممن كتب في علوم القرآن، من المعاصرين، ويضربون لهذين القولين مثالاً على تعارض روايتين في باب أسباب النزول مع صحتهما ووجود وجه من وجوه الترجيح، انظر: الإتقان (۱/ ۱۰٤ - ۱۰٥)، ولباب النقول (ص: ۱٤۰)، مناهل العرفان (۱/ ۱۱۷ - ۱۱۸)، المدخل لأبي شهبة (ص: ۱٤٦ - ۱٤۷)، مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح (ص: ۱٤٥ - ۱٤٦)، مباحث في علوم القرآن لمناع القطان (ص: ۸۸ - ۸۹)، علوم القرآن الكريم للدكتور عبد المنعم النمر (ص: ۱۰٤ - ۱۰٥) قضايا في علوم القرآن تعين على فهمه للدكتور السيد أحمد عبد الغفار (ص: ٤٤ - ٤٦). أم هى مما تكرر نزولها؟ ¬ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل العلم كالذهبي، والحافظ ابن كثير، والزركشى، والحافظ ابن حجر، والقسطلانى، انظر: تاريخ الإسلام -السيرة النبوية- (ص: ۲۱۳) تفسير ابن كثير (۳/ ٦٤)، البداية والنهاية (۳/ ٥۱)، البرهان (۱/ ۳۰)، الفتح (۸/ ۲٥۳)، المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني (۱/ ۲۳۳). وقد نحى هذا المنحى من المعاصرين الدكتور نور الدين عتر في كتابه "علوم القرآن الكريم" انظر: (ص: ٥۱)، والشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند من أسباب النزول انظر: (ص: ۱۳۰)، والدكتور أمير عبد العزيز، انظر: دراسات في علوم القرآن (ص: ۸۳).¥ وقبل أن نذكر أدلة كل قول من هذه الأقوال لنذكر مردّ الاختلاف في هذا الأمر. منشأ الخلاف بين هذه الأقوال: إن منشأ الخلاف بين تلك الأقوال هو ما ورد من روايات حول سبب نزول هذه الآية، ففي البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرث -وهو متكئ على عسيب- إذ مرّ اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال ما رابكم إليه؟ ¬قوله: "ما رابكم" قال الحافظ ابن حجر: "كذا للأ كثر بصيغة الفعل الماضي من الريب، ويقال فيه رابه كذا وأرباه كذا بمعنى ... " ثم نقل الحافظ قول الخطابي فقال: "وقال الخطابي: الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية، نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري كذلك" الفتح (۸/ ۲٥٤). قلت: والذي جاء في رواية الطبري المشار إليها: "فقالوا: ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون" تفسير الطبري (۱٥/ ۱٥٥).¥ وقال بعضهم لا يستقبلكم بشيء تكرهونه -فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يردّ عليهم شيئاً، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۲٥۳) برقم (٤۷۲۱) كتاب التفسير، باب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، وأخرجه أيضا في كتاب العلم برقم (۱۲٥) وفي الاعتصام برقم (۷۲۹۷)، وفي التوحيد برقم (۷٤٥٦) وبرقم (۷٤٦۲)، ومسلم (٤/ ۲۱٥۲) برقم (۲۷۹٤) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح.. وفي رواية كتاب الاعتصام فيها تصريح بأن هذا الحرث كان بالمدينة، ونص الرواية "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرث بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب ... " صحيح البخاري مع الفتح (۱۳/ ۲۷۹) برقم (۷۲۹۷). وورد أيضا في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه الإمام الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: "قالت قريش ليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقال: سلوه عن الروحِ، فسألوه عن الروح، فأنزل اللّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} قالوا: أوتينا علما كَثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتى التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} إلى آخر الآية" ¬سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۸/ ٤٥٦ - ٤٥۸) برقم (۳۳٤۹) أبواب تفسير القرآن، سورة بني إسرائيل، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٤/ ۸٥ - ۸٦) برقم (۲۳۰۹) طبعة شاكر، والنسائي في تفسيره (۲/ ۲۸) برتم (۳۳٤)، وابن أبي عاصم في السنة (۱/ ۲٦٤) برقم (٥۹٥)، وابن حبان في صحيحه انظر: الإحسان (۱/ ۳۰۱) برقم (۹۹)، وأبو الشيخ في العظمة (۳/ ۸٦۳) برقم (٤۰۳)، والحاكم في المستدرك (۲/ ٥۳۱)، وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في الدلائل (۲/ ۲٦۹)، كلهم من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس نحوه. وقال الذهبي -رحمه الله- بعد أن أورد هذا الحديث في السيرة: "وهذا إسناد صحيح" تاريخ الإسلام -السيرة النبوية- (ص: ۲۱۲). وقال الحافظ ابن حجر: "رجاله -أي الترمذي- رجال مسلم" الفتح (۸/ ۲٥۳). وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند: "إسناده صحيح"، المسند (٤/ ۸٥). وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن الترمذي (۳/ ٦۹) برقم (۲٥۱۰) وفي ظلال الجنة بتخريج السنة (۱/ ۲٦٥).¥. قلت: فهذه الرواية يفهم منها أن هذه الآية نزلت في مكة بسبب سؤال كفار قريش، وهذا يتعارض ما يفهم من روايات الصحيح السابقة حيث كان السؤال من اليهود في المدينة. قال أبو حيان -رحمه الله-: "والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية، ومن سؤال قريش أنها مكية" البحر المحيط (۷/ ۱۰٦).. وقال العلامة الآلوسي -رحمه الله. بعد أن أورد هذه الروايات في تفسيره: "والآية على هذا وما قبله مكية، وعلى خبر الصحيحين مدنية، وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر" روح المعاني (۱٥/ ۱٥۳).. وقال البيهقي -رحمه الله-: "وحديث ابن مسعود يدلّ على أن سؤال اليهود عن الروح ونزول الآية فيه كان بالمدينة" دلائل النبوة (۲/ ۲۷۱).. أدلة القائلين بمكية الآية:- استدل القائلون بمكية هذه الآية بما يأتي:- الدليل الأول: حديث الترمذي عن ابن عباس السابق ففيه دلالة واضحة على أن الآية مكية، وأن السائلين هم كفار قريش، وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "ومما يدلّ على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد" فذكر الحديث مختصراً بإسناد الترمذي نفسه انظر: تفسير ابن كثير (۳/ ٦٤).. الدليل الثاني: الإطلاق الوارد عن بعض الصحابة من أن آيات هذه السورة كلها مكية دون استثناء آية منها، قال العلامة الآلوسي -رحمه الله-: "وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية، وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور" روح المعاني (۲/ ۱٥).. الدليل الثالث: أن القول بأن في سورة الإسراء آيات مدنية قول مخالف لما عليه جمهور المفسرين، بل حكى بعضهم الإجماع على أن آيات هذه السورة كلها مكية ¬أجمع المفسرون على أن سورة الإسراء مكية، قال الفيروزآبادي -رحمه الله-: "السورة مكية باتفاق" البصائر (۱/ ۲۸۸). وقال البقاعي -رحمه الله-: "مكية إجماعًا" مصاعد النظر (۲/ ۲۲۸). ويقول العلامة الآلوسي -رحمه الله-: "هي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير -رضي الله تعالى عنهم- مكية، وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور" روح المعاني (۱٥/ ۲). وقال ابن عاشور -رحمه الله-: " ... أن السورة كلها مكية على الصحيح" التحرير والتنوير (۱٥/ ۱۸٦). .¥. أدلة القائلين بمدينة الآية:- استدل القائلون بمدنية هذه الآية بالأدلة التالية: الدليل الأول:- حديث البخاري عن ابن مسعود، والذي ذكرناه آنفا، وهو نص في أن هذه الآية نزلت بالمدينة، قال البيهقي -رحمة الله-: "وحديث ابن مسعود يدلّ على أن سؤال اليهود عن الروح ونزول الآية فيه كان بالمدينة" دلائل النبوة (۲/ ۲۷۱).. الدليل الثاني: أن رواية الإمام البخاري -رحمه الله- أرجح من غيرها من الروايات وذلك لسببين:- السبب الأول: أنها في الصحيح، وعلى هذا فهي أصح من غيرها بلا شك. السبب الثاني:- أن راوي حديث البخاري هو ابن مسعود، وقد حضر القصة بخلاف ابن عباس، قال السيوطي -رحمه الله- بعد أن ذكر كلا الحديثين: "ورجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة" الإتقان (۱/ ۱۰٥).. وقال أيضا: "ويرجح ما في الصحيح بأن راويه حاضر القصة بخلاف ابن عباس" لباب النقول (ص: ۱٤۰).. وقال الزرقاني: "وهو-أي حديث ابن مسعود- أرجح من وجهين: أحدهما: أنه رواية البخاري، أما الثاني فإنه رواية الترمذي، ومن المقرر أن ما رواه البخاري أصح مما رواه غيره. ثانيهما: أن راوي الخبر الأول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها إلى آخرها كما تدلّ على ذلك الرواية الأولى، بخلاف الخبر الثاني فإن رواية ابن عباس لا تدلّ الرواية على أنه كان حاضر القصة، ولا ريب أن للمشاهدة قوة في التحمل والأداء وفي الاستيثاق ليست لغير المشاهدة، ومن هنا أعملنا الرواية الأولى وأهملنا الثانية" مناهل العرفان (۱/ ۱۱۸).. الدليل الثالث: أن مما يدل على أن هذه الآية مدنية أنه لو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة لم يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولبادر إلى جوابهم بما تقدم من إعلام الله له، وما أنزل عليه انظر: الروح لابن القيم (۲/ ٥۲۰)، وبدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن القيم (۳/ ۱۰٥).. أدلة القائلين بتكرر نزول الآية: لم يأت أصحاب هذا القول بأدلة جديدة فيما يتعلق في الاستدلال على أن هذه الآية مكية أو مدنية، فأدلتهم في مكيتها هى نفس أدلة القائلين بمكيتها، وكذلك الاستدلال بمدنيتها. وهكذا يبدو أن هذا القول ما هو إلّا محاولة للتوقيف بين القولين السابقين، وقد ذهب إليه بعض محققي أهل العلم، أورده الزركشي -رحمه الله- تحت فصل "فيما نزل مكررًا" راجع: البرهان (۱/ ۲۹).. ومنهم الذهبي -رحمه الله- حيث قال: "وأما حديث ابن مسعود فيدل على أن سؤال اليهود عن الروح كان بالمدينة، ولعله - صلى الله عليه وسلم - سئل مرتين" تاريخ الإسلام -السيرة النبوية- (ص: ۲۱۳).. وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره بعد أن أورد رواية البخاري عن ابن مسعود: "وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية، وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه وهي هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} (۳/ ٦٤).. وبنحو هذا قال ابن كثير في "البداية والنهاية" مختصرًا حيث قال: "فإما أنها نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابًا وإن كان نزولها متقدمًا" (۳/ ٥۱).. وإلى هذا القول جنح الحافظ ابن حجر -رحمه الله- فيقول بعد أن ذكر حديث ابن مسعود: "وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة" الفتح (۸/ ۲٥۳). ثم ذكر حديث الترمذي عن ابن عباس وقال: "ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلّا فما في الصحيح أصح" الفتح (۸/ ۲٥۳).. ويقول القسطلاني ¬هو شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن عبد الملك القسطلاني، من مؤلفاته إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية، توفي -رحمه الله- سنة (۹۲۳ هـ). ترجمته: الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة (۱/ ۱۲٦ - ۱۲۷) البدر الطالع (۱/ ۱۰۲ - ۱۰۳).¥ -رحمه الله- في تأييده لهذا الرأي: "وهذا الحديث رواه الترمذي أيضا بإسناد رجاله رجال مسلم، فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير، ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك" المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (۲/ ۲۳۳).. وقد يقول قائل: ألا يدلّ قول الحافظ ابن حجر: "وإن ساغ هذا وإلّا فما في الصحيح أصح" أنه يرجح رواية البخاري عن ابن مسعود، وعليه يرى ترجيح مدنية هذه الآية؟ والجواب: لا يفهم من قول الحافظ نَفْى نزول هذه الآية بمكة، كيف وقد ثبت ذلك برواية صحيحة، أخرجها الترمذي وغيره عن ابن عباس كما سبق، ورجال الترمذي رجال مسلم كما يقول الحافظ ابن حجر نفسه، فكلامه محمول إذًا حول سبب نزول الآية، هل سبب نزول الآية قصة قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة؟ أم قصة اليهود معه عليه الصلاة والسلام في المدينة؟ الترجيح: يبدو -والله أعلم- بعد الموازنة بين هذه الأقوال أن ما ذهب إليه أصحاب القول الثالث من تكرر نزول هذه الآية هو الراجح، وذلك بما يلي: أولًا: أن في هذا القول جمعًا بين الأدلة المتعارضة، وكما هو مقرر في الأصول أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، قال الشافعي -رحمه الله-: "ولزم أهل العلم أن يمضوا الخبرين على وجوههما، ما وجدوا لامضائها وجهًا، ولا يعدّونهما مختلفين وهما يحتملان أن يمضيا، وذلك إذا أمكن فيهما أن يمضيا معًا، أو وجد السبيل إلى إمضائهما، ولم يكن منهما واحد بأوجب من الآخر" الرسالة للشافعي (ص: ۳٤۱).. وقال البيضاوي -رحمه الله-: "وإذا تعارض نصان فالعمل بهما من وجه أولى" منهاج الأصول للبيضاوي (ص: ۲٥۹).. وقال الأسنوي ¬هو عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر الأسنوي، ألف تصانيف عديدة، منها نهاية السؤال في شرح منهاج الأصول، وشرح كذلك منهاج النووي في الفقه الشافعي، توفي -رحمه الله- سنة (۷۷۲ هـ). ترجمته: الدرر الكامنة (۲/ ٤٦۳ - ٤٦٥)، الفتح المبين في طبقات الأصوليين (۲/ ۱۸٦ - ۱۸۷).¥ -رحمه الله- في معرض شرحه لعبارة البيضاوي السابقة: "وحاصل المسألة أنه إذا تعارض دليلان فإنما يرجح أحدهما على الآخر إذا لم يمكن العمل بكل واحد منهما، فإن أمكن ولو من وجه دون وجه، فلا يصار إلى الترجيح؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما بالكلية، لكون الأصل في الدليل هو الإعمال لا الإهمال" نهاية السؤل في شرح منهاح الأصول للأسنوي (٤/ ٤٤۹ - ٤٥۰).. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق" الفتح (۸/ ٤٥٦).. ثانيا: أن القول بمكية هذه الآية ونفْىَ نزولها بالمدينة، وكذلك القول بمدنيتها ونَفْىَ نزولها بمكة، أقول: يلزم من كلا هذين القولين ترك رواية صحيحة دون مبرر. وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "ومن قال إنها إنما نزلت بالمدينة واستثناها من سورة سبحان ففي قوله نظر" ¬البداية والنهاية (۳/ ٥۱). هناك اعتراضات اعترض بها على القول بتكرر النزول بصفة عامة، راجع هذه الاعتراضات والجواب عنها مفصلا (ص: ۸٤۱ - ۸٤٥). تنبيه: أفاض كثير من المفسرين في الحديث عن الروح المذكورة في الآية، وشعارنا في هذا هو قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. قال البغوي -رحمه الله-: "وأولىَ الأقاويل أن يوكل عليه إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة" معالم التنزيل (٥/ ۱۲٦). وللشوكاني كلام نفيس في هذا المقام حيث يقول: "وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه، ولم يطلع عليه أنبياءه، ولا أذن لهم بالسؤال عنه، ولا البحث عن حقيقته فضلًا عن أممهم المقتدين بهم، فيا لله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه" فتح القدير (۳/ ۲٥٤).¥. قلت: وكذلك من قال: إنها نزلت بمكة ونَفَي نزولها بالمدينة ففي قوله نظر أيضا، وذلك لما تدلّ عليه روايات الصحيحين السابقة. ثالثا: أن ما ذكره القائلون بمدنية الآية من أنه لو كانت الآية نزلت بمكة لم يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولبادر إلى الجواب أمر غير مسلم، إذ قد يحتمل أن يكون سكوته - صلى الله عليه وسلم - مَبْنيا على انتظار مزيد من الجواب، وهو ما يقوله الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في معرض جمعه بين الروايتين حيث قال: "ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك" الفتح (۸/ ۲٥۳)..