الفهرس

سُورة البقرة
(سورة البقرة مدنية) أجمع المفسرون على أن سورة البقرة مدنية، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- "والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بها" تفسير ابن كثير (۱/ ۳۷).. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "واتفقوا على أنها -أي البقرة- مدنية، وأنها أول سورة أنزلت بها" الفتح (۸/ ۱۰).. ومع أن في السورة آيات من أوائل ما نزل بالمدينة كذلك فيها آيات من أواخر ما نزل بالمدينة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والبقرة وإن كانت مدنية بالاتفاق وقد قيل إنها أول ما نزل بالمدينة فلا ريب أن هذا في بعض ما نزل وإلا فتحريم الربا إنما نزل متأخرًا، وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} من آخر ما نزل، وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} نزل عام الحديبية سنة ست باتفاق العلماء" مجموع الفتاوى (۱۷/ ۱۹۳).. وقد يقول قائل: ذكرتم آنفا نقلًا عن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أن سورة البقرة هي أول سورة أنزلت بالمدينة، فكيف نوفق بين هذا القول وبين ما أخرجه الواحدي في أسباب النزول بسنده عن علي بن الحسين زين العابدين من أن سورة المطففين هي أول سورة أنزلت بالمدينة؟ انظر: أسباب النزول للواحدي (ص: ۱۳).. هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد ذكر النجم النسفي ¬هو أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد، صاحب التيسير في التفسير، والعقائد النسفية الموجودة ضمن مجموع أمهات المتون، توفي -رحمه الله- سنة (٥۳۷ هـ). ترجمته: طبقات المفسرين للسيوطي (ص: ۸۸)، طبقات المفسرين للداوودي (۲/ ۷ - ۹).¥ في تفسيره المسمى "التيسير في التفسير" أن سورة القدر هي أول سورة أنزلت بالمدينة ¬انظر: التيسير في التفسير للنجم النسفي (۱/ ٤٥ ق/۱). وانظر: الإتقان (۱/ ۸۱) نقلا عن النسفي، ولعل الدكتور مصطفى البغا خالف الصوابَ حينما ظنّ أن النسفي الذي ذكره السيوطي هو صاحب "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" المشهور بتفسير النسفي؛ إذ إنه علق على نقل السيوطي بقوله: "ولم أجد هذا الكلام -يعني كون سورة القدر أول سورة نزلت بالمدينة- للنسفي عند تفسيره سورة القدر" الإتقان (۱/ ۸۱) هامش رقم (۲).¥، فأي قول أصوب في الأقوال الثلاثة؟ أولا: الجواب عما أخرجه الواحدي من أولية سورة المطففين مما نزل بالمدينة إن في إسناد الواحدي لهذه الرواية عليًّا بن الحسين الواقدي. قال الإمام البخاري عنه: "كنت أمرّ عليه طرفي النهار ولم أكتب عنه" التاريخ الكبير (٦/ ۲٦۷).. وقال أبو حاتم الرازي: "ضعيف الحديث" الجرح (٦/ ۱۷٦).. وقال الحافظ ابن حجر: "صدوق يهم" التقريب (۲/ ۳٥).. ثانيًا: الجواب عما ذكره النجم النسفي من أولية سورة القدر مما نزل بالمدينة: إن ما ذكره النجم النسفي من أولية سورة القدر مما نزل بالمدينة قول حكاها عن الواقدي، ومعلوم عند أهل العلم أن الواقدي متروك الحديث انظر بالتفصيل أقوال أهل العلم في الواقدي (ص: ٥۷۹ - ٥۸۰).. الروايات الدالة على مدنية السورة ۱ - أخرج الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه بسنده عن يوسف بن ماهك قال: "إني عند عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك، قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أية قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لاندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور" ¬صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ٦٥٤) كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، حديث رقم (٤۹۹۳). قال الحافظ ابن حجر: "لم اقف على اسمه -أي الرجل العراقي-." الفتح (۸/ ٦٥٥).¥. وجه الاستدلال: إن وجه الاستدلال بحديث عائشة على مدنية سورة البقرة هو أنه من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل على عائشة إلا بالمدينة المنورة، وكان ذلك في شوال من السنة الأولى للهجرة جزم ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة (٤/ ۳٥۹).. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "وأشارت-أي عائشة- بقولها "وأنا عنده" أي بالمدينة؛ لأن دخولها عليه إنما كان بعد الهجرة اتفاقا" الفتح (۸/ ٦٥٦).. ۲ - وأخرج الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية الربا" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ٥۲) برقم (٤٥٤٤) كتاب التفسير، باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله}.. وجه الدلالة: إن آخرية آية الربا تقتضي أن تكون الآية مدنية النزول، وهي من آيات سورة البقرة انظر بالتفصيل أقوال أهل العلم في آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - والجمع بين تلك الأقوال: (ص: ٥۲۱) هامش رقم (۱).. ۳ - وأخرج ابن الضريس من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: "ما نزل من القرآن بمكة وما أنزل منه بالمدينة، الأول فالأول ... " فقال بعد أن عدد السور المكية: "ثم أنزل بالمدينة سورة البقرة .. " فضائل القرآن لابن الضريس (ص: ۳٤).. ٤ - وأخرج النحاس بسنده عن ابن عباس أن سورة البقرة مدنية انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (۲/ ۳۱٦ - ۳۱۷).. ٥ - وأخرج ابن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: "نزلت بالمدينة سورة البقرة" الدر المنثور (۱/ ٤٦) والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره (۱/ ۳۷) من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس.. ٦ - وأخرج ابن مردويه بسنده عن عبد الله بن الزبير قال: "أنزل بالمدينة سورة البقرة" الدر (۱/ ٤٦) والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره (۱/ ۳۷) من طريق خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير.. ۷ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق فضيل بن الحسين عن حسان بن إبراهيم عن أمية الأزدي عن جابر بن زيد فذكر السور المكية والمدنية، وسورة البقرة من القسم المدني انظر: البيان للداني (ص: ۱۳٦).. ۸ - وأخرج أبو داود في "الناسخ والمنسوخ" له بسنده عن عكرمة قال: "أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة" الدر (۱/ ٤٦).. ۹ - وأخرج البيهقي من طريق عليّ بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحويّ عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن فذكرا السور المكية والمدنية، وسورة البقرة من القسم المدني ينظر: دلائل النبوة (۷/ ۱٤۲ - ۱٤۳).. ۱۰ - وأخرج الحارث المحاسبيّ من طريق سفيان بن عيينة عن معمر عن قتادة قال-: "السور المدنية: البقرة ... " فهم القرآن (ص: ۳۹٥).. ۱۱ - وأخرج أبو بكر بن الأنباري من طريق حجاج بن منهال عن همام عن قتادة قال: "نزل بالمدينة من القرآن البقرة ... " تفسير القرطبي (۱/ ٦۱ - ٦۲).. ۱۲ - وأخرج أبو عبيد من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة قال: "نزلت بالمدينة سورة البقرة ... " فضائل القرآن لأبي عبيد (ص: ۳٤۰) برقم (۷۹٦).. ۱۳ - وذكر الإمام الزهري -رحمه الله- السور المكية والمدنية، وجعل سورة البقرة ضمن القسم المدني انظر: تنزيل القرآن (ص: ۲۹).. ۱٤ - وأخرج ابن أشتة ¬هو محمد بن عبد الله أبو بكر الأصبهاني المقرئ النحوي، من مؤلفاته المصاحف، والمفيد في القراءات الشاذة، توفي -رحمه الله- سنة (۳٦۰ هـ). ترجمته: معرفة القراء الكبار (۱/ ۳۲۱)، بغية الوعاة (۱/ ۱٤۲).¥ من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: "سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدِّمتا وألف القرآن على علم ممن ألف به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه" الإتقان (۱/ ۱۹۸ - ۱۹۹) وإسناد رجاله ثقات.. ۱٤ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام البصري عن أئمته أن سورة البقرة مدنية ينظر: البيان للداني (ص: ۱٤۰).. ۱٥ - وأورد أبو القاسم النيسابوري ترتيب القرآن المكي والمدني، وجعل سورة البقرة ضمن القسم المدني ينظر: التنزيل وترتيبه (۲۲۳ ق/ ب).. ۱٦ - وعدّد ابن شيطا في روايته للمكي والمدني السور المدنية ومنها سورة البقرة ينظر: فنون الأفنان (ص: ۳۳۷ - ۳۳۸).. بعض روايات أسباب النزول الدالة على مدنية السورة: ۱ - أخرج الإمام البخاري -رحمه الله- بسنده عن البراء بن عازب قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده-أو قال أخواله- من الأنصار، وأنَّه صلى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنَّه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمرّ على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل مكة، فداروا -كما هم- قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولّى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك. قال زهير: حدثنا أبو إسحاق عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} صحيح البخاري مع الفتح (۱/ ۱۱۸) كتاب الإيمان باب الصلاة من الإيمان، حديث رقم (٤۰).. وجه الدلالة: في الحديث دليل واضح على أن هذه الآية {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} مدنية؛ لأن تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته إلى الكعبة كان في منتصف رجب سنة اثنتين من الهجرة ينظر: تاريخ خليفة بن خياط (ص: ٦٤)، الفتح (۱/ ۱۲۰).. ۲ - وأخرج الإمام البخاري بسنده عن البراء قال: "كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ففرحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} صحيح البخاري مع الفتح (٤/ ۱٥٤) برقم (۱۹۱٥) كتاب الصوم، باب قول الله تعالى جل ذكره {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية.. وجه الدلالة: ورد في الحديث آية من سورة البقرة تتناول بالتفصيل بعض أحكام الصيام، ومعلوم أن مشروعية الصيام كانت في المدينة لعشر من شهر شعبان في السنة الثانية من الهجرة ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي (٦/ ۳٥۰).. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن قيس بن صرمة الأنصاري الذي نزلت الآية في شأنه من الأنصار، ومعلوم بداهة أنه لم يكن ثمة قرآن نزل في شأن الأنصار إلّا في المرحلة المدنية. ۳ - وأخرج البخاري بسنده عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: "كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأمموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۳٤) برقم (٤٥۱۹) كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}.. وجه الدلالة: في الأثر تصريح بأن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} نزل في تأثم بعض الصحابة التجارة في موسم الحج، وكما هو مذهب جمهور أهل العلم أن تاريخ مشروعية الحج كان في أواخر ستة تسع من الهجرة انظر تاريخ فرضية الحج في: مجموع الفتاوى (۱۷/ ۳۹۹).. وهكذا تكون هذه الآية مدنية وهي من آيات سورة البقرة. ٤ - وأخرج الإمام البخاري بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ٥۱) برقم (٤٥٤۰) كتاب التفسير، باب {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وجه الدلالة: في الحديث دليل على أن آيات من آخر سورة البقرة نزلت في شأن تحريم الربا، وتبتدئ تلك الآيات من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} سورة البقرةَ الآيات (۲۷٥ - ۲۸۱).. وتحريم الربا كما هو معلوم لم يكن إلّا في المرحلة المدنية. وقد يقول قائل: هل يفهم ما ذكرتم أن تحريم الربا نزل في الآيات المذكورة آنفا. الجواب: قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرحه لحديث "آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية الربا": "المراد بالآخرية في الربا تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة، وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران في أثناء قصة أحد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية" الفتح (۸/ ٥۳)..
الآيات المدَّعى مكيتها في سورة البقرة:
في قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} جزء من الآية (۱۰۹)، سورة البقرة.. يرى أبو عبيدة ¬هو معمر بن المثنى التيمي البصري النحوي، ألف مجاز القرآن، وأمثال العرب، توفي -رحمه الله- سنة (۲۰۹ هـ). ترجمته: إشارة التعيين (ص ۳٥۰ - ۳٥۱)، بغية الوعاة (۲/ ۲۹٤).¥ أن هذه الآية مكية؛ لما فيها من ترك القتال والإعراض والصفح عن المشركين، إذ إن كل آية -على حدّ قول أبي عبيدة- فيها ترك القتال فهي مكية. ونص عبارته يقول في معرض شرحه لهذه الآية: "وهذا قبل أن يؤمر بالهجرة والقتال، فكل أمر نهى عن مجاهدة الكفار فهو قبل أن يؤمر بالقتال وهو مكي" مجاز القرآن لأبي عبيدة (۱/ ٥۰).. مناقشة قول أبي عبيدة: إن الرجوع إلى سبب نزول الآية ينفي أي احتمال في مكية الآية؛ فقد نزلت الآية كما هو واضح في سياق صدر الآية في أهل الكتاب، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا} الآية سورة البقرة، الآية (۱۰۹).. ومعلوم أن اليهود لم تكن بمكة وإنما كانت بالمدينة، قال ابن عطية -رحمه الله- مشيرًا إلى ضعف رأي أبي عبيدة: "وحكمه بأن الآية مكية ضعيف؛ لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة" المحرر الوجيز (۱/ ۳۲۹).. وأخرج أبو الشيخ من طريق الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد أنه أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب على حمار، فقال لسعد: "ألم تسمع ما قال أبو الحباب -يريد عبد الله بن أُبيّ- قال كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه يعفون عن أهل الكتاب والمشركين، فأنزل الله عز وحلَّ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} " ¬أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وآدابه لأبي الشيخ (ص ٤۱ - ٤۲)، وإسناده صحيح، واصل الحديث في صحيح البخاري لكن ليس في البخاري ذكر سبب النزول. انظر: صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۷۸ - ۷۹) برقم (٤۰٦٦)، كتاب التفسير، باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. وأخرجه أيضًا في الأدب، باب كنية المشرك (۱۰/ ٦۰۷) برقم (٦۲۰۷).¥. وورد في سبب نزول الآية أيضًا أنها نزلت في كعب بن الأشرف اليهودي ¬نماذج من أقوال أهل العلم حول تعدد الأسباب: أ - قال النووي -رحمه الله- في معرض شرحه: "ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعًا فلعلهما سألا في وقتين متقاربين، فنزلت الآية فيهما"، المنهاج على شرح صحيح مسلم (۱۰/ ۱۲۰). ب - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وإذا ذكر أحدهم لها سببًا نزلت لأجله، وذكر الآخر سببًا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب"، مقدمة في أصول التفسير (ص ٤۰). جـ - وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله -: "ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق"، الفتح (۸/ ٤٥٦). وقال أيضًا: "لا مانع أن تتعدد القصص ويتعدد النزول"، الفتح (۸/ ٤٥۰).¥، فقد أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفيه أنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ¬تفسير ابن أبي حاتم (۱/ ۳۳۱) برقم (۱۰۹۰)، وإسناده صحيح. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بعد أن أورد قصة كعب بن الأشرف، ونزول الآية فيه من طريق الواحدي قال: "وهذا سند صحيح، وعلى هذا فالجمع في قوله: {يَرُدُّونَكُمْ} لكعب ومن تابعه ويستقيم الكلام". العجاب في بيان الأسباب (۳۹ ق/ أ). والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره مختصرًا عن معمر عن الزهري، انظر: تفسير عبد الرزاق (۱/ ٥٥)، والواحدي بأطول من هذا السياق، انظر: أسباب النزول (ص ۳٥ - ۳٦).¥. وأصرح من هذه الروايات رواية البيهقي في "دلائل النبوة" ففيها تصريح بنزول الآية حين قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. قال البيهقي: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان، قال: حدثنا عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك -وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم يريد كعب بن مالك- "أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة وأهلها أخلاطًا، منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم المشركون الذين يعبدون الأوثان، ومنهم اليهود وهم أهل الحلْقة الحلْقة: السلاح، وقيل: هي الدروع خاصة. انظر: النهاية (۱/ ٤۲۷). والحصون، وهم حلفاء للحيّين: الأوس والخزرج، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم، وكان الرجل يكون مسلمًا وأبوه مشرك، والرجل يكون مسلمًا وأخوه مشرك، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله تعالى رسوله والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، ففيهم أنزل الله جل ثناؤه: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} سورة آل عمران، الآية (۱۸٦).، وفيهم أنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} " دلائل النبوة للبيهقي (۳/ ۱۹٦ - ۱۹۷)، وإسناده صحيح.. وقد يقول قائل: أليست هذه الآية منسوخة بالآيات الدالة على قتال الكفار، والتي نزلت في المرحلة المدنية، إذ إن المدني ينسخ المكي؟ والجواب: أن مثل هذا الوهم توهمه أبو عبيدة -رحمه الله- كما ذكرنا، والتحقيق أن ليس ثمة نسخ؛ إذ لا تعارض بين آيات الأمر بالعفو والصفح وبين آيات القتال، ذلك أن كلًّا منهما في حالة معينة، فآيات القتال في حال قوة الأمة، وآيات العفو في حال ضعف الأمة. قال ابن الجوزي -رحمه الله- في معرض رده على دعوى النسخ في هذه الآية: "واعلم أن تحقيق الكلام دون التحريف فيه أن يقال: إن هذه الآية ليست منسوخة؛ لأنَّه لم يأمر بالعفو مطلقًا، وإنما أمر به إلى غاية، وبين الغاية بقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} وما بعد الغاية يكون حكمه مخالفًا لما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون أحدهما ناسخًا للآخر، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر محتاجًا إلى حكم آخر" نواسخ القرآن لابن الجوزي (ص ۱۳۷).. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مشيرًا إلى أن الآيات إلى تدعو إلى الصبر على الأذى، وعدم مجابهة الكفار تطبق في حالة ضعف المسلمين، وأما الآيات إلى تدعو إلى الجهاد والقوة فهي تطبق في حالة قوة المسلمين، قال: "وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآيات ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى يوم قيام الساعة ... فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية (ص: ۲۲۸ - ۲۲۹).. وقال الزركشي -رحمه الله-: "وليس حكم المسايفة ناسخًا لحكم المسالمة بل كل منهما يجب امتثاله في وقته" البرهان للزركشي (۲/ ٤۳).. ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "والآية غير منسوخة على التحقيق" أضواء البيان (۱/ ۸٤).. ونستخلص مما سبق أن الآية نزلت في الفترة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باشر تأسيس دولته الإسلامية في المدينة وقبل مرحلة الإذن بالقتال، إذ إن الإذن بالقتال كان بعد أن استقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وأسس الدولة الإسلامية، وأقام دعائم الدعوة، عندئذ كان الإذن بالقتال، حين نزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية سورة الحج، الآية (۳۹).. ومما تحسن الإشارة إليه في هذا المقام أن العفو أعم من أن يكون في القتال فحسب، وكم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعفو عن المشركين واليهود بالمن والفداء! إلى غير ذلك من الأمور التي دونتها كتب السيرة والتاريخ. ومن جهة أخرى لا يكون العفو إلا عند القدرة على الانتقام، أما في مكة فقد أمر المسلمون بالصبر على الأذى؛ إذ لم تكن لهم دولة ولا قوة، ولم يسمّ أحد من العلماء مرحلة عفو، بل كانت مرحلة صبر على الأذى. يقول الشيخ محمد عبده ¬هو محمد عبده بن حسن خير الله، كان من كبار مؤسسي المدرسة المعروفة باسم "مدرسة التجديد والإصلاح"، وصار مفتيًا للديار المصرية سنة (۱۳۱۷ هـ) واستمر إلى أن توفي سنة (۱۳۲۳ هـ). ترجمته: معجم المفسرين (۲/ ٥٦٦ - ٥٦۷)، معجم المؤلفين: (۱۰/ ۲۷۲). هذا وللدكتور عبد الله محمود شحاتة دراسة بعنوان: منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن الكريم، نال بها درجة الماجستير من كلية دار العلوم بجامعه القاهرة، وقد نشرت الرسالة ضمن سلسلة مطبوعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالقاهرة.¥ كما نقله عنه الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره: "وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة؛ لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه" تفسير المنار (۱/ ٤۲۱).. وخلاصة القول: أن دعوى مكية هذه الآية كانت مبنية على توهم أن العفو والصفح لم يكونا إلا في المرحلة المكية فحسب، وقد أزلنا هذا الوهم -بحمد الله- إذ لا تعارض في الحقيقة كما بيَّنا بين الآيات التي تأمر بالعفو والصفح ونحو ذلك وبين الآيات إلى تأمر بالقتال -والله أعلم-. في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} سورة البقرة، الآية (۲۷۲).. لم أجد أحدًا عزي إليه القول بمكية هذه الآية، وقد أوردها الإمام السيوطي -رحمه الله- ضمن الآيات اللاتي قيل إنهن مستثناة من سورة البقرة انظر: الإتقان (۱/ ٤۳).. والحقيقة التي لا مفرَّ منها أنني لم أقف -حسب اطلاعي- على مستند يستند إليه القول بمكية الآية اللهم إلا ما يستشف من الآية من معنى المرحلة المكية، وهو أمر ينقضه بعض أسباب النزول التي ذكرت للآية. فمن الأسباب التي ذكرها المفسرون للآية ما أخرجه النَّسَائِيّ - رحمه الله- في تفسيره من طريق الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانوا يكرهون أن يرضخوا الرضخ هو العطية. انظر: النهاية (۲/ ۲۲۸)، لسان العرب (۳/ ۱۹). لأنسابهم من المشركين فسألوا، فرضخ لهم، فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآية" تفسر النَّسَائِيّ (۱/ ۲۸۲ - ۲۸۳) برقم (۷۲)، وصحح المحققان إسناده.. وجاء التعيين بأن هؤلاء من الأنصار عند الطبري من طريق الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان ناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآية" تفسير الطبري (٥/ ٥۸۸) برقم (٦۲۰٥).. ومن الأسباب التي ذكرت للآية أيضًا ما أورده الرازي -رحمه الله- في حديثه عن أسباب نزول الآية، فقال: "في بيان سبب النزول وجوه: أحدها: أن هذه الآية نزلت حين جاءت نَتيلة هكذا في تفسير الرازي وهو تصحيف، والصواب: قتيلة، كما في الإصابة. انظر: (٤/ ۳۸۸ - ۳۸۹). أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها، وكذلك جدتها، وهما مشركتان، أتيا أسماء يسألانها شيئًا، فقالت: لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية ... " تفسير الرازي (۷/ ۸۲).. وهذا السبب وإن كان دالًّا على نزول هذه الآية بالمدينة إلا أن جعله سببًا للآية فيه نظر من وجهين: أولا: الثابت في الروايات الصحيحة أن الذي نزل في قصة أسماء مع أمها هو قوله تعالىِ: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} سورة الممتحنة، الآية (۸).. ففي صحيح البخاري بسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "أتتني أمي راغبة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أأصلها؟ قال: نعم" قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} صحيح البخاري مع الفتح (۱۰/ ٤۲۷) برقم (٥۹۷۸) كتاب الأدب، باب صلة الوالد المشرك.. وإدراج ابن عيينة الذي يقرر أن الآية نزلت في قصة أسماء مع أمها قد وقع موصولًا عن عبد الله بن الزبير عند الإمام أحمد انظر: المسند (٤/ ٦) برقم (۱٦۰۹۲) بسند صحيح -طبعة المكتب الإسلامي المرقمة - وانظر أيضًا: مرويات الإمام أحمد بن حنبل في التفسير (٤/ ۲۲٥).. ثانيًا: أن قصة أسماء مع أمها باللفظ الذي أورده الرازي في تفسيره فيه نكارة؛ إذ ورد هذا اللفظ من طريق الكلبي كما أخرجه الواحدي انظر: أسباب النزول (ص: ۹۰).. وخلاصة القول: يبدو -والله أعلم- أن دعوى مكية هذه الآية ما هي إلا وهم توهمه البعض، وهو أن الآية تحمل معنى من معاني المرحلة المكية، وكما هو معروف في القواعد أن الموهوم لا يعارض المحقق انظر هذه القاعدة في: موسوعة القواعد الفقهية للبُورنو (۱/ ۸٥). كما سبق أن ذكرت عدم التعارض بين الآيات التي تحمل مثل ذلك المعنى وبين الوصف بأنها مدنيات ¬يقول الدكتور عبد العزيز القارئ مشيرًا إلى أن القول بمكية هذه الآية قول مرجوح: " لم يذكر أهل العلم من المستثنى في سورة البقرة إلا آيتين هما: الآية (۱۰۹) وهي قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}، والآية (۲۷۲)، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، والراجح أنهما مدنيتان". التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية حرره الدكتور عبد العزيز القارئ (ص: ۳۷).¥. في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} سورة البقرة، الآية (۲۸۱).. ذهب الماوردي إلى أن هذه الآية مكية بناء على أنها نزلت يوم النحر في حجة الوداع، وفي هذا يقول: "مدنية -أي سورة البقرة- في قول الجميع إلا آية واحدة منها وهي قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} الآية، فإنها نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى" النكت والعيون (۱/ ٦۳).. مناقشة ما ذهب إليه الماوردي من القول بمكية الآية: إن قول الماوردي في مكية هذه الآية مبني على الاصطلاح القائل: إن ما نزل في مكة مكي، وما نزل في المدينة مدني. قال ابن عطية -رحمه الله-: "وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مدني سواء ما نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار أو بمكة، وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة" المحرر الوجيز (٥/ ٥).. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في معرض شرحه لحديث البخاري: "لبث النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشر سنين" أخرجه البخاري بسنده عن عائشة وابن عباس، صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ٦۱۸) برقم (٤۹۷۸، ٤۹۷۹) كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل. قال الحافظ -رحمه الله- في الفتح: "وأما حديث الباب فيمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه أخر، وهو أنه بعث على الأربعين، فكانت مدة المقام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثم فتر الوحي، ثم تواتر وتتابع، فكانت مدة تواتره وتتابعه بمكة عشر سنين من غير فترة". الفتح (۸/ ٦۱۹). قال: "ويستفاد من حديث الباب أن القرآن نزل كله بمكة والمدينة خاصة، وهو كذلك، لكن نزل كثير منه في غير الحرمين؛ حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر حج أو عمرة أو غزاة، ولكن الاصطلاح أن كل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، سواء نزل في البلد حال الإقامة أو في غيرها حال السفر" الفتح (۸/ ٦۲۰).. وقال برهان الدين البقاعي -رحمه الله- بعد أن أورد دعوى مكية هذه الآية بصيغة التمريض قال: "وهو قول من لم يتحقق الفرق الذي تقدم بين المكي والمدني" مصاعد النظر (۲/ ٥ - ٦)، وانظر الفرق المشار إليه عند البقاعي في المصاعد (۱/ ۱٦۱).. هذه هي مناقشة دعوى مكية هذه الآية من حيث الاصطلاح المكي أو المدني. وأما نزول الآية يوم النحر في حجة الوداع فإنني لم أجد رواية صحيحة تدل على ذلك، فالروايات الصحيحة كلها تنص على أن الآية من آخر القرآن نزولًا. ففي تفسير النَّسَائِيّ من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: "آخر شيء نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} " ¬تفسير النَّسَائِيّ (۱/ ۲۹۰) برقم (۷۷) وصحح المحققان إسناده. والأثر أخرجه أبو عبيد في فضائله بإسناد فيه انقطاع (ص ۲۲٤)، والطبري في التفسير (٦/ ۳۹ - ٤۰) برقم (٦۳۱۱)، والنحاس في معاني القرآن (۱/ ۳۱۲)، والطبراني في المعجم الكبير (۱۱/ ۳۷۱) برقم (۱۲٤۰)، والبيهقي في دلائل النبوة (۷/ ۱۳۷) كلهم من طريق الحسين بن واقد عن يزيد النحوي به. هذا وقد ورد في أخر ما نزل من الآيات أقوال متعددة غير القول الذي ذكرنا، ففي البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "آخر آية نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- آية الربا" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ٥۲) برقم (٤٥٤٤)، وقد جمع الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بين قولي ابن عباس فقال: "وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية- أي {وَاتَّقُوا يَوْمًا} هى ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هى معطوفة عليهن". الفتح (۸/ ٥۳). ومن الأقوال أيضًا ما أخرجه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: "آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} ". صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۱۱۷) برقم (٤٦۰٥)، وصحيح مسلم (۳/ ۱۲۳٦) برقم (۱٦۱۸). وأجاب الحافظ ابن حجر عن آخرية هذه الآية فقال: "وأما ما سيأتي في آخر سورة النساء من حديث البراء: "آخر سورة نزلت براءة، وأخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} فيجمع بينه وبين قول ابن عباس بأن الآيتين نزلتا جميعًا فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداهما، ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلًا، بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه، والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول". الفتح (۸/ ٥۳). وقال الحافظ أيضًا في معرض شرحه لحديث آخرية آية النساء: "وأصح الأقوال في آخرية الآية قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} ". الفتح (۷/ ۱٦۷). قلت: وهكذا بقية الأقوال التي قيلت بأنها من آخر ما نزل من القرآن فهي أواخر مقيدة.¥. ومما يحتاج إلى التنبيه في هذا المقام أن ذكر نزول هذه الآية يوم النحر بمنى قد ورد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ¬أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (۷/ ۱۳۷). والكلبي هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشير، وطريقه أو هي طرق ابن عباس في التفسير؛ لأنه متروك الحديث. قال الذهبي في ترجمته: "كان رأسًا في الأنساب إلا أنه شيعيّ متروك الحديث". السير (٦/ ۲٤۸). وقال أبو حاتم الرازي: "الناس مجمعون على ترك حديثه لا يشتغل به". الجرح (۷/ ۲۷۰). وأما أبو صالح فهو باذام مولى أم هانئ، قال عنه الحافظ في التقريب (۱/ ۹۳): "ضعيف مدلس".¥، وعلى فرض صحة نزول الآية يوم النحر بمنى فإنه ليس دليلًا على مكية هذه الآية؛ إذ إن كل ما نزل بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة معدود من المدني، ولو كان نزل في غير المدينة. قال الزركشي -رحمه الله- معقبًا على قول الماوردي هذا: "ونزولها هناك -أي منى- لا يخرجها عن المدني بالاصطلاح الثاني أن ما نزل بعد الهجرة مدني سواء كان بالمدينة أو بغيرها" البرهان (۱/ ۱۸۸).. وخلاصة القول: أن دعوى مكية هذه الآية انطلقت من منظور مكاني، ولو انطلقت من منظور زماني لما ترددت في مدنية الآية؛ إذ الآية من آخر القرآن نزولًا -والله أعلم-.