الفهرس

سُورة التوبة
(سورة التوبة مدنية) حكى غير واحد من أهل التفسير الإجماع على مدنية سورة التوبة، وإليك طرفا من أقوال هؤلاء المفسرين. قال النحاس -رحمه الله-: "لا أعلم خلافاً أنها من آخر ما نزل بالمدينة" الناسخ والمنسوخ للنحاس (۲/ ۳۹٦).. وقال الماوردي -رحمه الله-: "مدنية عند جميعهم" النكت والعيون (۲/ ۳۳٦).. ويقول البقاعي -رحمه الله-: "وهي مدنية إجماعا" مصاعد النظر (۲/ ۱٥۱).. ويقول العلامة الألوسي -رحمه الله-: "مدنية كما روي عن ابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وقتادة، وخلق كثير، وحكى بعضهم الاتفاق عليه" روح المعاني (۱۰/ ٤۰).. وقال ابن عاشور -رحمه الله-: "وهي مدنية بالاتفاق" التحرير والتنوير (۱۰/ ۹۷).. الروايات الدالة على مدنية السورة ۱ - أخرج الإمام البخاري -رحمه الله- بسنده عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} وآخر سورة نزلت براءة" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۱٦۷) كتاب التفسير، باب {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} حديث رقم (٤٦٥٤).. ۲ - وأخرج البخاري أيضا بسنده عن أبي هريرة قال: "بعثني أبو بكر - رضي الله عنه - في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي بن أبي طالب، فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۱٦۸) كتاب التفسير، باب {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} حديث رقم (٤٦٥٦).. وجه الدلالة: في الحديث دلالة واضحة على أن أول سورة براءة نزل عام حجة أبي بكر - رضي الله عنه -، وكان ذلك في العام التاسع من الهجرة، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة تبوك وهمّ بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أميراً على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليكون مبلغاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكونه عصبة له" ¬تفسير ابن كثير (۲/ ۳٤٤). وقد ظن بعض الروافض أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً على أثر أبي بكر دليل بتفضيل عليّ على أبي بكر، وليس هذا بشيء، وقد أجاد الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- في الرد على من ظن ذلك، فقال: "فإن توهم متوهم أن في أخذ "براءة" من أبي بكر - رضي الله عنه - وتسليمها إلى علي - رضي الله عنه - تفضيلا لعلي على أبي بكر، فقد جهل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجرى العرب في ذلك على عادتهم، قال الزجاج: وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها ... ) زاد المسير (۳/ ۲۹٦) وانظر كلام الزجاج في: معاني القرآن (۲/ ٤۲۸).¥. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "اتفقت الروايات على أن حجة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت سنة تسع" الفتح (۸/ ۱۷۳).. وقال أيضا: "إن أول براءة نزل عقب فتح مكة في سنة تسع عام حج أبي بكر" ¬الفتح (۸/ ۱۷۳). وقد يشكل بما ذكرنا من أن حج أبي بكر - رضي الله عنه - كان سنة تسع ماجاء عن عبد الرزاق مرسلاً عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} قال: "لما قفل النبي - صلى الله عليه وسلم - زمان حنين اعتمر من الجعرانة وأمَّر أبا بكر على تلك الحجة". تفسير عبد الرزاق (۲/ ۲٦٥) وانظر أيضا: المصنف (٥/ ۳٥۲) ومعلوم أن عمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة من السنة الثامنة للهجرة، وإضافة إلى ذلك أن أمير الحج في عمرة الجعرانة كان عتاب بن أسيد فكيف هذا بما ذكرنا؟ انظر هذا الإشكال في: تفسير ابن كثير (۲/ ۳٤٦) وانظر تاريخ عمرة الجعرانة في: البداية والنهاية (٤/ ۳٦٤). وقد أجاب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- على هذا الإشكال فقال: "يمكن رفع الإشكال بأن المراد بقوله "ثم أمَّر أبا بكر" يعني بعد أن رجع إلى المدينة، وطوى ذكر من ولي الحج سنة ثمان فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج فأمَّر أبا بكر، وذلك سنة تسع، وليس المراد أنه أمَّر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة، وقوله "وعلى تلك الحجة" يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة" الفتح (۸/ ۱۷۳)، هذا وقد ذكر الحافظ ابن كثير والحافظ ابن حجر - رحمهما الله - أثر عبد الرزاق السابق مرفوعاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولم أجد هذا الرفع لا في تفسيره ولا في المصنف، وقد وجدته عند ابن خزيمة في صحيحه. انظر: صحيح ابن خزيمة (٤/ ۲۳۲۲)، تفسير ابن كثير (۲/ ۳٤٦)، الفتح (۸/ ۱۷۳).¥. ۳ - وأخرج الإمام مسلم بسنده عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس سورة التوبة، قال التوبة، قال بل هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحد إلّا ذكر فيها ... " صحيح مسلم (٤/ ۲۳۲۲) برقم (۳۰۳۱) كتاب التفسير.. وجه الدلالة: دلّ الحديث على أن من أسماء سورة التوبة الفاضحة، وقد سميت بذلك لكشفها وفضحها أحوال المنافقين، ومعلوم أن النفاق لم يظهر إلّا في المدينة. ٤ - الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وفيه: "وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها، وظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطراً، بسم الله الرحمن الرحيم، قال ابن جعفر: ووضعتها في الطوال" ¬المسند (۱/ ۳۲۹ - ۳۳۱) برقم (۳۹۹) طبعة شاكر. وفي إسناده يزيد الفارسي وهو مختلف فيه، فقيل هو يزيد بن هرمز، وقيل غيره، قال الحافظ ابن حجر بعد ذكره ترجمة يزيد بن هرمز: "وهو غير يزيد الفارسي على الصحيح" التقريب (۲/ ۳۷۲). وقال ابن حجر في يزيد الفارسي: "مقبول" التقريب (۲/ ۳۷۳) والحديث أخرجه الإمام أبو داود (۱/ ٤۹۸) برقم (۷۸٦) كتاب الصلاة، باب من جهر بها، والترمذي، انظر سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۸/ ۳۷۹ - ۳۸۱) برقم (۳۲۸۲) التفسير، سورة التوبة. وقال: "هذا حديث حسن لا نعرفه إلّا من حديث عوف بن يزيد الفارسي عن ابن عباس" وأخرجه الحاكم في المستدرك (۲/ ۲۲۱) وقال: "صحيح الإسناد و لم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وقد ضعفه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند من أجل يزيد الفارسي، فقال: "وفي إسناده نظر كثير، بل هو عندي ضعيف جداً، بل هو حديث لا أصل له، يدور إسناده في كل رواياته على يزيد الفارسي". وذكر الشيخ أحمد شاكر أن ما جاء في نسخة الترمذي - طبعة بولاق - من قوله "حسن صحيح" أن التصحيح زيادة خطأ، وأن النسخ الصحيحة التي شرحها المباركفوري ليس فيها هذا. وضعف كذلك الشيخ شاكر الحديث من جهة المتن فقال: "وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعيّ قراءة وسماعاً وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك ... " وختم الشيخ شاكر كلامه على هذا الحديث بقوله: "فلا عبرة بعد هذا كله في هذا المرضوع بتحسين الترمذي ولا بتصحيح الحاكم ولا بموافقة الذهبي، وإنما العبرة بالحجة والدليل". انظر مما سبق من كلام الشيخ أحمد شاكر في تعليقاته على المسند (۱/ ۳۲۹ - ۳۳۱). وضعفه كذلك الشيخ ناصر الدين الألباني في ضعيف سنن الترمذي (ص: ۳۸۰ - ۳۸۱) برقم (٥۹۹) وفي ضعيف سنن أبي داود (ص: ۷۸) برقم (۱٦۸). وضعف قبلهما ابن عطية فقال: "وهذا القول يضعفه النظر أن يختلف في كتاب الله هكذا" المحرر الوجيز (۸/ ۱۲٤).¥. ٥ - وأخرج ابن الضريس من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكر فيما نزل بمكة وما أنزل بالمدينة، وسورة التوبة من القسم المدني فضائل القرآن لابن الضريس (ص: ۳٤).. ٦ - وأخرج أبو الشيخ بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزلت براءة بعد فتح مكة" فضائل القرآن لابن الضريس (ص: ۳٤).. ۸ - وأخرج ابن عبد الكافي من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: "سورة التوبة مدنية في قولهم جميعاً" ¬بيان ابن عبد الكافي (۲٤ ق/ أ). وأخرج نحوه النحاس دون أن يذكر إسناده في هذه المرة علماً بأن إسناد عبد الكافي هو نفس إسناد النحاس المتكرر في صدر كل سورة. انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (۲/ ۳۹٦).¥. ۹ - وأخرج ابن مردويه بسنده عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "أنزل بالمدينة سورة براءة" الدر (٤/ ۱۱۹).. ۱۰ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق فضيل بن الحسين عن حسان بن إبراهيم عن أمية الأزدي عن جابر بن زيد فعدّد السور المكية والمدنية، وسورة التوبة من القسم المدني البيان للداني (ص: ۱۳۷).. ۱۱ - وأخرج البيهقي من طريق علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن فذكرا السور المكية والمدنية وسورة التوبة من القسم المدني دلائل النبوة (۷/ ۱٤۲ - ۱٤۳).. ۱۲ - وأخرج الحارث المحاسبي من طريق سفيان بن عيينة عن معمر عن قتادة فذكر السور المدنية ومنها سورة التوبة ينظر: فهم القرآن (ص: ۳۹٥).. ۱۳ - وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: "مما نزل في المدينة براءة" الدر (٤/ ۱۱۹).. ۱٤ - وأخرج أبو عبيد من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة فذكر السور المدنية، ومنها سورة التوبة ينظر: فضائل القرآن لأبي عبيد (ص: ۳٤۰) برقم (۷۹٦).. ۱٥ - وذكر الزهري السور المكية والمدنية، والتوبة معدودة من القسم المدني ينظر: تنزيل القرآن (ص: ۳۱).. ۱٦ - وأخرج أبو عمرو الداني من طريق أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام البصري عن أئمته أن سورة التوبة مدنية ينظر: البيان للداني (ص: ۱٦۰).. ۱۷ - وأورد أبو القاسم النيسابوري السور المكية والمدنية، وسورة التوبة ضمن القسم المدني ينظر: التنزيل وترتيبه (۲۲۳ ق/ ب).. ۱۸ - وفي رواية ابن شيطا في المكي والمدني السورة ضمن القسم المدني. ينظر: فنون الأفنان (ص: ۳۳۷ - ۳۳۸). بعض روايات أسباب النزول الدالة على مدنية السورة ۱ - أخرج الإمام البخاري -رحمه الله- بسنده عن أبي مسعود الأنصاري قال: "لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلّا رئاءً، فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية" صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۱۸۱) برقم (٤٦٦۸) كتاب التفسير، باب {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ}.. وجه الدلالة: إن وجه دلالة هذا الحديث لمدنية السورة من وجهين: الوجه الأول: في الحديث ذكر الأمر بالصدقة، والمراد بها هنا الزكاة المفروضة بدليل ما جاء في كتاب الزكاة بلفظ "لما نزلت آية الصدقة" جزء من حديث البخاري في كتاب الزكاة، انظر: صحيح البخاري مع الفتح (۳/ ۳۳۲) برقم (۱٤۱٥) كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة. وهي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} سورة التوبة الآية (۱۰۳). و لم يرد الحديث عن الزكاة في القرآن المكي بصيغة الأمر، ولكنها وردت بصيغة الخبر انظر: فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي (۱/ ٦۰).. الوجه الثاني: في الحديث ذكر النفاق، ومعلوم أن النفاق لم ينشأ إلّا في المرحلة المدنية، إذ لم يكن أمام الكفار حينما قامت الدولة الإسلامية في المدينة إلّا أحد طريقين: إما الجلاء عن المدينة، وإما البقاء فيها والتظاهر بالإسلام نفاقاً. ۲ - وأخرج الإمام البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلى عليه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله، فقال: يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۱۸٤) برقم (٤٦۷۰) كتاب التفسير، باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ}.. وجه الدلالة: في الحديث دليل على أن قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} الآية، نزلت في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي - قبحه الله -، وقد كان موته في ذي القعدة من العام التاسع للهجرة ¬انظر: البداية والنهاية (٥/ ۳۱)، الفتح (۸/ ۱۸٥). هذا وقد أنكر بعض العلماء حديث صلاة النبي على عبد الله بن أبي رغم اتفاق الشيخين على إخراجه، ووجه إنكارهم هو التخيير المذكور في الحديث مع أن ظاهر الآية أن "أو" للتسوية في عدم نفع الاستغفار لهم، لقوله تعالى في آخر الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. وممن أنكر صحة هذا الحديث كما ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- القاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، والداوودي - أحد شراح البخاري - وقد أعطى الحافظ ابن حجر -رحمه الله- هؤلاء المنكرين جوابهم الشافي حينما قال: "وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه". ودفع الحافظ ابن حجر -رحمه الله- الإشكال المتوهم بين الآية والحديث فقال: "ولعل الذي نزل أولاً وتمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - به قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} إلى هنا خاصة، ولذلك اقتصر في الجواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء، وفضحهم على رؤوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله،ولعل هذا هو السر في اقتصار البخاري في الترجمة من هذه الآية على هذا القدر إلى قوله {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولم يقع في شيء من نسخ كتابه تكميل الآية، كما جرت به العادة من اختلاف الرواة عنه في ذلك". وختم الحافظ -رحمه الله- في كلامه على دفع الإشكال بقوله: "وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في الحديث ظنه بأنه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي نزلت الآية كاملة؛ لأنه لو فرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيرة لا يجدي، وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخياً عن صدر الآية ارتفع الإشكال". انظر: الفتح (۸/ ۱۸۹-۱۹۱). وممن اعترض على هذا الحديث من المعاصرين الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- حيث قال في تفسيره: "ولكن حديث معارضة عمر بطريقيه مشكل ومضطرب من وجوه" تفسير المنار (۱۰/ ٥۷۷). ثم عدد الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- الأوجه التي يراها أنها تدل على اضطراب الحديث في رأيه. قلت: إن هذا الهجوم على السنة النبوية الصحيحة بسبب شبهات تافهة، ولو سلكنا هذا المسلك لفقدنا الثقة بما ورد إلينا من السنة النبوية الصحيحة. ولعلي قد أطلت في الحديث عن الإشكال ودفعه على ضوء ما قاله شيخ الحفاظ ابن حجر -رحمه الله-، ولو لا أني رأيت أن هذا خروج عن موضوع الرسالة لذكرت أكثر مما أثبته هنا، والذي حملني على تلك الإطالة هو ما وجدته عن بعض من يطلق عليهم أنهم مؤرخو العصر أو مفكروه، وجدتهم يشككون في صحة هذا الحديث في متنه تارة وفي إسناده تارة أخرى. انظر: تفسير المنار (۱۰/ ٥۷۷-٥۸۰) والتفسير الحديث للأستاذ محمد عزة دروزة (۱۲/ ۱۹۹). وكثيراً ما يرد الأستاذ دروزة -رحمه الله- الأحاديث الصحيحة بدعوى معارضتها لسياق الآيات، ولا نشك أن كل هذا وهم توهمه الأستاذ -رحمه الله-، ونسأل الله -عز وجل- أن يغفر لكل هؤلاء الذين أنكروا صحة الحديث ولنا جميعاً، إنه سميع مجيب.¥. الآيات المدعى مكيتها في سورة التوبة في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} الآية سورة التوبة، الآية (۱۱۳).. تعددت أقوال العلماء في هذه الآية فمن قائل: إن الآية نزلت في استغفار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب، ومقتضى هذا النزول- على حسب فهمه- أن الآية مكية ومستثناة من مدنية سورة التوبة انظر: الإتقان (۱/ ٤٤) فقد قال السيوطي: "واستثنى بعضهم {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي طالب: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"" هذا وقد اغترّ أحد الباحثين المعاصرين بمقتضى هذا السبب ولم يحاول الجمع بين هذه الرواية والروايات الأخرى فحكم على الآية بأنها مكية، انظر: خصائص السور والآيات المدنية للدكتور عادل أبي العلا (ص: ۲۲٥).. واستبعد آخرون نزول الآية في استغفار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب، وذلك لتباعد زمن موت أبي طالب الذي كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وزمن نزول سورة التوبة إلى هي من أواخر ما نزل بالمدينة ¬انظر ما نقله الثعلبى عن الحسين بن الفضل في الكشف والبيان (٦/ ۱٥۲ ق / ب). وقد وصل الأمر لدى بعض أصحاب هذا القول إلى إنكار الروايات الصحيحة، ومن هؤلاء الشيخ ابن عاشور -رحمه الله- فإنه بعد أن نقل تضعيف ابن العربيّ لحديث حسنه الإمام الترمذيّ وهو الحديث الذي معنا في الرواية الثانية قال: "وأما ما روي في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب أو أنها نزلت في سؤال ربّه أن يستغفر لأمه أمنة حين زار قبرها بالأبواء فهما خبران واهيان لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل ". التحرير والتنوير (۱۱/ ٤٤) وانظر تضعيف ابن العربي للحديث في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (۱۱/ ۲٥۰) وقد أطال الكلام على الآية التي معنا.¥. كما عدّ بعضهم الآية مما تعدد نزولها. انظر الإتقان (۱/ ۱۰٦) وهذا القول هو القول الذي ترجح عند الإمام السيوطي- رحمه الله-. وأياً كان الأمر فإن الجزم برأي واحد في هذه الآية يرجع إلى عدم الجمع بين الروايات والسبر في طرق هذه الروايات. وليتضح لنا مدى التعارض بين الروايات الواردة في نزول هذه الآية فلنذكر أولا هذه الروايات، وبعد ذلك نحاول الجمع بينها والإجابة عن الإشكالات الي تطرح عليها: الرواية الأولى: أخرج الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاةُ دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي عمّ قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} " صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۱۹۲) كتاب التفسير، باب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} حديث رقم (٤٦۷٥) والحديث أخرجه البخَاري أيضا في الجنائز، حديث رقمَ (۱۳٦۰). وفي مناقب الأنصار برقم (۳۸۸٤) وفي كتاب التفسير أيضا، تفسير سورة القصص، برقم (٤۷۷۲). وفي كتاب الأيمان والنذور برقم (٦٦۸۱).. الرواية الثانية: وأخرج الإمام أحمد في مسنده من طريق سفيان النَوريّ عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عن عليّ قال: "سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؛ قال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك؟ فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} إلى آخر الآيتين". قال عبد الرحمن: فأنزل الله {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ¬المسند (۲/ ۲٤٤ برقم ۱۰۸٥) طبعة شاكر، وصححه الشيخ أحمد شاكر، والحديث أخرجه الإمام أحمد أيضاً مختصراً (۲/ ۱۱٦ - ۱۱۷ برقم ۷۷۱) طبعة شاكر، والترمذي وحسنه. سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۸/ ٤۰۰ - ٤۰۱ برقم ۳۳۰۰)، وأبو يعلى في مسنده برقم (٦۱۹)، والحاكم في المستدرك (۲/ ۳۳٥) وصححه ووافقه الذهبي كلهم من طريق وكيع عن سفيان به، وأخرجه أيضاً النَّسَائِيّ في الجنائز برقم (۲۰۳٥) والطبري في التفسير (۱٤/ ٥۱٤ - ٥۱٥ برقم ۱۷۳۳٤) كلاهما من طريق عبد الرحمن عن سفيان به. وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن النَّسَائِيّ (۲/ ٤۳۷ برقم ۱۹۲٥).¥. الروايَة الثالثة: أخرج الحاكم من طريق ابن وهب عن أيوب بن هاني عن مسروق بن الأجدع عن ابن مسعود قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر في المقابر، وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا ثم تخطا القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم ارتفع نجيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باكياً فبكينا لبكائه، ثم أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ما الذي أبكاك؟ فقد أبكانا وأفزعنا، فجاء فجلس إلينا فقال: أفزعكم بكائي؟ فقلنا نعم يا رسول الله، فقال: إن القبر الذي رأيتموني أناحي فيه قبر أمي آمنة بنت وهب، وإنى استأذنت ربى في زيارتها فأذن لي فيه، فاستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه ونزل عليّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} حتى ختم الآية {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} فأخدْني ما يأخذ الولد لوالده من الرقة فذلك الذي أبكاني" ¬المستدرك (۲/ ۳۳٦) وقد صححه الحاكم، وتصحيحه هذا الحديث فيه تساهل؛ ففي إسناده ابن حريج وقد عنعن، وفيه أيوب بن هاني وقد ضعفه الذهبي. انظر التلخيص بحاشية المستدرك (۲/ ۳۳٦) وقال عنه الحافظ ابن حجر: "صدوق وفيه لين ". التقريب (۱/ ۹۱). ولكنّ الحديث يحسن بمتابعاته وشواهده، فمن الشواهد: أ- ما أخرجه الطبري من طريف عطية العوفي عن ابن عباس مختصراً، وإسناده ضعيف. انظر: تفسير الطبري (۱٤/ ٥۱۲ برقم ۱۷۳۳۱). ب- ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس (۱۱/ ۳۷٤ برقم ۱۲۰٤۹) وضعفه الحافظ ابن كثير. انظر: تفسير ابن كثير (۲/ ٤۰۸). وأما المتابعات فمنها: أ- ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره مطولاً من طريق خالد بن حداش عن ابن وهب به. انظر: تفسير ابن أبي حاتم، سورة التوبة، الأثر (۱۷۰۲). ب- ما أخرجه الواحديّ في أسباب النزول من طريق محمد بن يعقوب الأمويّ عن محمد بن نصر عن ابن وهب به. انظر: أسباب النزول (ص: ۲٦۲ - ۲٦۳).¥. الجمع بين هذه الروايات: جمع بعض أهل العلم -رحمهم الله- بين هذه الروايات جمعاً وجيهاً، ومن هؤلاء أبو جعفر الطحاوي، والواحدي، والحافظ ابن حجر، وبما أن جمع الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أكلهم وأوفاهم في حل إشكال تعارض الروايات فإننا نبدأ بذكره. رأي الحافظ ابن حجر في الجمع بين هذه الروايات: يرى الحافظ -رحمه الله- أن قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية لم ينزل عقب وفاة أبي طالب مباشرة، وإنما كان نزولها متأخراً عن ذلك بمدة طويلة، بمعنى أن نزولها كان بعد كل الحوادث إلى ذكرتها الروايات، وفي هذا يقول في معرض شرحه لحديث وفاة أبي طالب: "أما نزول هذه الآية الثانية -أي قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية- فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول التي قبلها ففيه نظر؛ ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة وهي عامة في حقه وفي حق غيره." ¬الفتح (۷/ ۲۳٥) وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: "وأما قوله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية ففد أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وكذا نقل إجماعهم على هذا الزحاج وغيره .... ". المنهاج على شرح صحيح مسلم (۱/ ۲۱٥)، وانظر: معاني القرآن للزجاج (٤/ ۱٤۹).¥. وقال أيضاً عند تفسيره لآية التوبة: "والترجيح أن نزولها كان متراخياً عن قصة أبي طالب جداً، وأن الذي نزل في قصته {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} " الفتح ۸/ ۱۹۰. واستدل الحافظ -رحمه الله- على تأخر نزول الآية بالأدلة التالية: أولاً: الروايات والطرق العديدة الدالة في نزول الآية في غير قصة أبي طالب، فقال بعد أن أورد بعض الروايات في غير قصة أبي طالب: " فهذه طرق يعضد بعضها بعضاً، وفيه دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب. " الفتح (۸/ ۳٦۷). ووجه استشهاد الحافظ -رحمه الله- لهذه الروايات هو أنه لو كانت الآية نزلت عقب وفاة أبي طالب لم يكن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخالف أمر ربه في نهيه عن الاستغفار للمشركين. ثانيا: استغفاره - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين، فقد ثبت في الصِحيِح أن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما مات عبدا لله ابن أبيّ بن سلول قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين" جزء من حديث البخاري، انظر: صحيح البخاري مع الفتح (۸/ ۱۸٤ برقم ٤٦۷۰) كتاب التفسير، باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. قال الحافظ -رحمه الله- مشيراً إلى ذلك: "ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول" الفتح (۸/ ۳٦۷).. ثالثاً: ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد بعد أن شج وجهه "ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". الفتح (۸/ ۳٦۷). ومن خلال كلام الحافظ -رحمه الله- يبدو أنه يرى أن هذه الآية من باب تعدد الأسباب، وليست من باب تعدد النزول كما يقول الإمام السيوطي -رحمه الله- انظر: الإتقان (۱/ ۱۰٦).، وصرح الحافظ في ذلك بقوله: "ويؤيد تعدد السبب ما أخرجه أحمد" الفتح (۸/ ۳٦۸).، ثم ذكر رواية الإمام أحمد عن عليّ ¬قال: "سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؛ قال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك؟ فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} إلى آخر الآيتين". قال عبد الرحمن: فأنزل الله {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}، المسند (۲/ ۲٤٤ برقم ۱۰۸٥) طبعة شاكر، وصححه الشيخ أحمد شاكر، والحديث أخرجه الإمام أحمد أيضاً مختصراً (۲/ ۱۱٦ - ۱۱۷ برقم ۷۷۱) طبعة شاكر، والترمذي وحسنه. سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۸/ ٤۰۰ - ٤۰۱ برقم ۳۳۰۰)، وأبو يعلى في مسنده برقم (٦۱۹)، والحاكم في المستدرك (۲/ ۳۳٥) وصححه ووافقه الذهبي كلهم من طريق وكيع عن سفيان به، وأخرجه أيضاً النَّسَائِيّ في الجنائز برقم (۲۰۳٥) والطبري في التفسير (۱٤/ ٥۱٤ - ٥۱٥ برقم ۱۷۳۳٤) كلاهما من طريق عبد الرحمن عن سفيان به. وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن النَّسَائِيّ (۲/ ٤۳۷ برقم ۱۹۲٥).¥. توجيه أبي جعفر الطحاوي: وقال الطحاوي: -رحمه الله- بعد أن أورد كل الروايات التي ذكرنا: "فالله أعلم بالسبب الذي كان فيه نزول ما قد تلونا غير أنه قد يجوز أن يكون نزول ما قد تلونا بعد أن كان جميع ما ذكرنا من سبب أبي طالب، ومن سبب عليّ رضي الله عنه فيما كان سمعه من المستغفر لأبويه، ومن زيارة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، ومن سؤال ربّه عز وجل عن ذلك الإذن له في الاستغفار لها، فكان نزول ما تلونا جواباً عن ذلك كله" شرح مشكل الآثار للطحاوي (٦/ ۲۸٦).. توجيه الواحديّ: إن توجيه الواحديّ -رحمه الله- بين الروايات السابقة يتلخص كذلك بما قاله الحافظ ابن حجر والطحاوي -رحمهما الله- من تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب، حيث قال تعقيباً على استبعاد الحسين بن الفضل ونصه كما في الكشف والبيان للثعلبي: "وهذا -أي نزول الآية في أبي طالب- بعيد؛ لأن السورة من أخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة" الكشف والبيان (٦/ ۱٥۲ ق / ب). بنزول الآية في شأن أبي طالب قال: "وهذا الاستبعاد مستبعد فأيّ بأس أن يقال: كان عليه الصلاة والسلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة " ¬بواسطة روح المعاني (۱۱/ ۳۳)، ولم أجد هذا النص في كتب الواحدي المتوفرة بين يديّ كأسباب النزول، والوجيز في التفسير، والوسيط بين الوجيز والبسيط، والآخران طبعا أخيراً، فقد صدر الأول عن دار القلم بدمشق في مجلدين بتحقيق صفوان الداوودي، وأما الآخر فقد صدر عن دار الكتب العلمية ببيروت في أربعة مجلدات بتحقيق مجموعة من المحققين تصرفوا في عنوان الكتاب حيث سموه "الوسيط في تفسير القرآن المجيد". كما لم أجد هذا النص أيضاً في كتاب الواحديّ الكبير "البسيط في التفسير" الذي ما زال مخطوطاً، وتوجد في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة نسخة مصورة من هذا التفسير برقم (۸۸۲۹) عن الأصل المحفوظ في مكتبة شهيد علي في استنبول بتركيا، كما توجد نسخة أخرى برقم (۹۲۷۱) عن الأصل المحفوظ في دار الكتب المصرية، وكلتا النسختين سقطت منهما سورة التوبة. وغالب الظنّ أن نص الواحديّ المذكور في هذا التفسير، ويقوي هذا الظن أمور ثلاثة: أولاً: مما هو معلوم أن الواحدي -رحمه الله- تلميذٌ للثعلبي، ولأجل هذا كثيراً ما ينقل عن تفسير الثعلبي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليداً لغيره". مقدمة في أصول التفسير (ص: ۱۱۱). وقد ذكر الثعلبي استبعاد الحسين بن الفضل في نزول الآية في أبي طالب عند تفسيره لآية التوبة، فلا مانع إذاً أن يذكر الواحديّ ذلك الاستبعاد مع التعقيب الذي نقله عنه الألوسيّ عند تفسيره لتلك الآية. انظر: الكشف والبيان (٦/ ۱۰٥۲ ق / ب)، وروح المعاني (۱۱/ ۳۳). ثانيا: لا يعلم للواحديّ تفسير غير تفاسيره الثلاثة "الوجيز"، و "الوسيط"، و " البسيط"، فإذا لم نجد النص في تفسيره الوجيز، والوسيط، إضافة إلى كتابه" أسباب النزول"، فلا مناص إذاً بوحود النص في القسم الساقط من البسيط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مشيراً إلى تفاسير الواحدي الثلاثة: " وتفسيره -أي الثعلبي- وتفسير الواحديّ البسيط والوسيط والوجيز فيها فوائد جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها". مقدمة في أصول التفسير (ص: ۱۱۱). ثالثا: نقولات الواحدي عن الحسين بن الفضل كثيرة في كتابه البسيط أكثر من مؤلفاته الأخرى، فقد أحصيت منها في سورة الفاتحة فقط ثلاثة نقولات، ومما سبق أجدني مطمئناً إلى أن تعقيب الواحديّ لقول الحسين بن الفضل يوجد في كتابه" البسيط في التفسير". -والله أعلم-.¥. وذكر العلامة الألوسيّ -رحمه الله- أن هذا التوجيه اعتمد عليه جمع من العلماء واستحسنوه، فإنه قال بعد أن ذكر قول الواحديّ: "وعليه لا يراد بقوله: فنزلت في الخبر أن النزول كان عقب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب، واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلّة العلماء وهو توجيه وجيه" روح المعاني (۱۱/ ۳۳)، وانظر المعاني التي ترد بها الفاء في العربية: مغنى اللبيب لابن هشام الأنصاريّ النحويّ (۱/ ۱٦۱ - ۱٦۸).. وخلاصة القول: أن هذه الآية من الآيات التي تعددت أسبابها، وقد تأخر نزولها كما سبق بيانه، وبهذا يمكن أن تجمع بين الروايات، أما ما ذكره الإمام السيوطي -رحمه الله- من القول بتعدد النزول انظر: الإتقان (۱/ ۱۰٦).، فلا أرى اللجوء إلى ذلك إلّا إذا تعذر الجمع، والجمع قد أمكن هنا. قال صاحب المراقي: والجمع واجب متى ما أمكنا ... إلّا فللأخير نسخ بينا متن مراقي المسعود (ص: ۱٦۱). وقد يقول قائل: لماذا لا نأخذ الرواية الراجحة إلى وردت في الصحيحين ونترك الروايات الأخرى الواردة في غيرهما؟ والجواب: يلزم من ذلك ترك رواية صحيحة، فالرواية الثانية التي أخرجها الإمام أحمد في مسنده أقلّ درجتها أنها حسنة، وكما سبق في تخريجها حسنها الإمام الترمذيّ، وصححها الحاكم، كما صححها أيضا الأستاذ أحمد شاكر، وحسّنها الشيخ اللألباني ¬المسند (۲/ ۲٤٤ برقم ۱۰۸٥) طبعة شاكر، وصححه الشيخ أحمد شاكر، والحديث أخرجه الإمام أحمد أيضاً مختصراً (۲/ ۱۱٦ - ۱۱۷ برقم ۷۷۱) طبعة شاكر، والترمذي وحسنه. سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (۸/ ٤۰۰ - ٤۰۱ برقم ۳۳۰۰)، وأبو يعلى في مسنده برقم (٦۱۹)، والحاكم في المستدرك (۲/ ۳۳٥) وصححه ووافقه الذهبي كلهم من طريق وكيع عن سفيان به، وأخرجه أيضاً النَّسَائِيّ في الجنائز برقم (۲۰۳٥) والطبري في التفسير (۱٤/ ٥۱٤ - ٥۱٥ برقم ۱۷۳۳٤) كلاهما من طريق عبد الرحمن عن سفيان به. وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن النَّسَائِيّ (۲/ ٤۳۷ برقم ۱۹۲٥).¥. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق" الفتح (۸/ ٤٥٦).. إشكال والجواب عنه: ¬الإجابة عن الإشكالات والشبهات منهج علمي معروف لدى السلف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومعلوم أن العلم إنما يتمّ بصحة مقدماته والجواب عن معارضاته ليحصل وجود المقتضى وزوال المانع". الصفدية لابن تيمية (۱/ ۲۸٦).¥ سبق أن قلنا إن قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية تأخر نزوله عن وفاة أبي طالب بمدة طويلة إلّا أنه يشكل على هذا ما أخرجه ابن سعد في طبقاته حيث قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه، عن علىّ قال: "أخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموت أبي طالب فبكى، ثم قال اذهب فاغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه، قال ففعلت ما قال، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر له أياماً، ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} قال عليّ: وأمرنَي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلت" طبقات ابن سعد (۱/ ۱۲۳).. وجه الإشكال: إن هذا السبب واضح في أن نزول الآية كان قبل الهجرة، قال العلّامة الألوسىّ -رحمه الله- بعد أن أورد هذا السبب في تفسيره: " فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة؛ لأن عدم الخروج من البيت فيه مغيًّا به، اللهمّ إلّا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له" روح المعاني (۱۱/ ۳۳).. الجواب على الإشكال: لا تشكل علينا هذه الرواية إذا عرفنا أنها لا تنهض أمام الروايات الصحيحة السابقة، ففي إسنادها محمد بن عمر الواقديّ -صاحب السيرة- وهو متروك الحديث، فقد سئل أبو زرعة الرازي عن الواقديّ فقال: "ترك الناس حديثه" أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ضمن كتاب "أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية" للدكتور سعدي الهاشمي (۲/ ٥۱۱).. وقال ابن حبان: "كان يروي عن الثقات المقلوبات، وعد، الثقات المعضلات حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك" المجروحين لابن حبان (۲/ ۲۹۰).. وقال ابن عديّ: "ومتون أخبار الواقديّ غير محفوظة، وهو بيِّن الضعف، والبلاء منه" الكامل لابن عديّ (٦/ ۲۲٤٥).. ولخص الحافظ ابن حجر القول فيه فقال: "متروك مع سعة علمه" التقريب (۲/ ۱۹٤). وهنا قضية مهمة ينبغي أن يتفطن إليها الباحثون وهي أن أهل العلم حينما يقولون إن الواقديّ متروك الحديث لا يعني أن رواياته التاريخية كلها تضرب عرض الحائط، بل يستفاد منها فيما يتعلق بوصف الأحداث التاريخية مما ليس له علاقة بالعقيدة والشريعة. فها هو الذهبي -رحمه الله- يقول: "وقد تقرر أن الواقديّ ضعيف يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر" السير (۹/ ٤٦۹).. وقال أيضاً: "وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه" السير (۹/ ٤٦۹).. ويقول أيضاً: "جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فاطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم" السير (۹/ ٤٦۹).. وها هو الحافظ ابن حجر -رحمه الله- الذي حكم على الواقديّ بأنه متروك يقول: "والواقديّ إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة ولا غيره من أهل المغازي فهو مقبول عند أصحابنا" التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعيّ الكبير لابن حجر (۲/ ۲۹۱).. في قوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (۱۲۸) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} سورة التوبة، الآيتان (۱۲۸ - ۱۲۹).. ذهب إلى القول بمكية هاتين الآيتين بعض أهل التفسير، وأوردهم على حسب الترتيب الزمني: ۱ - مقاتل بن سليمان. انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (۲/ ۱٥۳ - ۱٥٤). ۲ - أبو القاسم النيسابوري. انظر: التنزيل وترتيبه (۲۲۷ ق / أ)، وذكره الزركشي في البرهان نقلاً عن أبي القاسم النيسابوريّ. انظر البرهان (۱/ ۲۰۲). ۳ - ابن عطية. انظر: المحرر الوجيز (۸/ ۱۲۳). ٤ - ابن الفرس. انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (۲/ ۲۱ ق/ أ). ٥ - ابن الجوزي. انظر: زاد المسير (۳/ ۳۸۸). ٦ - الرازي. انظر: تفسير الرازي (۱٥/ ۲۲۳). ۷ - أبو حيان. انظر: البحر المحيط (٥/ ۳٦٥)، والعجيب أن أبا حيّان نسب هذا القول إلى الجمهور. مستند القول بمكية هاتين الآيتين: لم أجد أي مستند لهذا القول، ولعلّ ما تدل عليه الآيتان من حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قومه، ورحمته بهم هو الدافع إلى القول بمكيتهما؛ إذ أنهم ظنوا أن هذه الأمور مناسبة في المرحلة المكية. مناقشة القول بمكية الآيتين: إن أول أمر ينقض القول بمكية هاتين الآيتين هو ما ورد أنهما آخر القرآن نزولاً في قول أبيّ بن كعب - رضي الله عنه -. فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب: "أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن، فقال لهم أبي بن كعب: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأني بعدها آيتين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} إلى {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ثم قال: هذا آخر ما أنزل من القرآن. قال: فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تبارك وتعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء، الآية (۲٥). " ¬المسند (٥/ ۱۷۷ - ۱۷۸ رقم ۲۱۲۱۸) طبعة المكتبة الإسلامية المرقمة. وإسناده حسن؛ لأن ما يرويه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية نسخة، والأثر أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (ص:۳۸) من طريق محمد بن سعيد عن أبى جعفر به، وابن أبي داود في كتاب المصاحف بمثله، وفيه زيادة، (ص: ۹) وابن أبي حاتم في تفسيره، سورة التوبة برقم (۱۸٤۲) بنحوه، والضياء المقدسيّ في المختارة بنحوه (۳/ ۳٦۰ - ۳٦۱ برقم ۱۱٥٥) و (۳/ ۳٦۱ - ۳٦۲ برقم ۱۱٥٦)، وزاد الإمام السيوطي -رحمه الله- نسبته إلى أبي الشيخ وابن مردويه والخطيب البغدادي في تلخيص المتشابه. انظر: الدر (٤/ ۳۳۱) وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد (۷/ ۳۹) وقال: "رواه عبد الله بن أحمد وفيه محمد بن جابر الأنصاري وهو ضعيف. ". قلت: لم أجد في إسناد عبد الله بن أحمد هذا الرجل والله أعلم.¥. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند أيضاً من طريق عليّ بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس عن أبيّ قال: "آخر آية نزلت {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية" ¬المسند (۱٥۷۱٥ برقم ۲۱۱۰٥) طبعة المكتب الإسلامي، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (۱٤/ ٥۸۸ - ٥۸۹ برقم ۱۷٥۱٤ ورقم ۱۷٥۱٥)، والحاكم في المستدرك (۲/ ۳۳۸)، والبيهقي في الدلائل (۷/ ۱۳۹)، كلهم من طريق شعبة عن عليّ بن زيد به. وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد وقال: "رواه عبد الله بن أحمد والطبرانيّ، وفيه عليّ بن زيد بن جدعان وهو ثقة سيئ الحفظ، وبقية رجاله ثقات". مجمع الزوائد (۷/ ۳۹).¥. من خلال هاتين الروايتين يبدو أن دعوى المكية لا تثبت، وثم أمر آخر ينبغى أن يلاحظ وهو أن اعتماد هذه الدعوى هو موضوع الآيتين كما ذكرت، والاعتماد على الموضوع فحسب دون الرجوع إلى الروايات- إن كانت- منهج غير سليم، على أن ذكر الآيتين في ختام هذه السورة جاء لمناسبة معينة بينها شيخ هذا الفن في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور". يقول الإمام البقاعي: -رحمه الله- في الكتاب المذكور ما نصه: "ولما أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يبلّغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة، وكان من المعلوم أنه لا يحمل ذلك إلّا من وفقه الله تعالى، وأما المنافقون فيكرهون ذلك، وكان انصرافهم دالاً على الكراهة، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضى لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه" نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (۳/ ٤۰۷).. ويمضي الإمام البقاعي -رحمه الله- في بيان مناسبة الآيتين فيقول: "وأورد سبحانه هذه الآية إيراد المخاطب المتلطف المزيل لما عندهم من الريب بالقسم، فكأنه قال ما لكم تنصرفون عن حضرته الشماء وشمائله العلى، ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعرضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى أول السورة الأمر بالبراءة من كل مخالف" ¬نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (۳/ ٤۰۷)، وما ذكره الإمام البقاعي -رحمه الله- التفات آخر السورة إلى أولها ما يعرف عند أهل البلاغة ردّ العجز إلى الصدر. قال الأخضري في منظومته: ومن ردّ عجز اللفظ على ... صدر ففي نثر بفقرة جلا متن الجوهر المكنون في علم البلاغة (ص: ٥٤).¥. وعلاوة على ما ذكرنا فإن حديث الآيتين عن حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قومه لا يقتضى نزول الآيتين في مكة، وكم من الآيات المدنية مشتملة على مثل ذلك، أليس قول الله تبارك وتعالى {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} سورة آل عمران، الآية (۱٦٤). من آيات سورة آل عمران وهى مدنية باتفاق. وبالنسبة للآخرية المذكورة في الآية فقد سبق أن قلت: إن أرجح الأقوال في آخرية الآيات هو قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وأصح الأقوال في آخرية الآية قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} " الفتح (۸/ ۱٦۷)، إذاً آخرية هذه الآية مقيدة بهذه السورة.. نعم إن التحلي بالفضائل، والصبر على المكاره، ومكارم الأخلاق بصفة عامة مما يكثر حديثه في السور المكية، ولكن هذا لا يعني أن السور المدنية لا تذَكِّر بهذا. شذرات من أقوال العلم في نقد دعوى مكية الآيتين: ۱ - قال القرطبي -رحمه الله- بعد أن ذكر ما ذهب إليه مقاتل من مكية الآيتين: "وهذا فيه بعد؛ لأن السورة مدنية" تفسر القرطبي (۸/ ۳۰۳).. ۲ - ويقول السيوطي -رحمه الله- مبدياً استغرابه لدعوى مكية الآيتين: "غريب، كيف وقد ورد أنها آخر ما نزل" الإتقان (۱/ ٤٤).. ۳ - ويقول الآلوسي -رحمه الله- تعقيباً على رأي ابن الفرس السابق: "وهو مشكل بناءً على ما في المستدرك عن أبيّ بن كعب، وأخرجه أبو الشيخ في تفسيره عن علي بن زيد عن يونس المكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} إلخ " روح المعاني (۱۰/ ٤۰)، وانظر كلاماً نحو هذا في تفسير المنار (۱۰/ ۱٤٥).. ٤ - وقال ابن عاشور -رحمه الله-. "وشذ ما روي عن مقاتل: أن آيتين من آخرها مكيتان" التحرير والتنوير (۱۰/ ۹۷).. وخلاصة القول: أن الآيتين مدنيتان كالسورة، والقول بمكيتهما يتعارض مع ما ذكرنا من الروايات الثابتة، كما أن هذا القول لا يستند إلى دليل يذكر. والله أعلم.